فروق: صدمة أميركا من خطأها الاستراتيجي: الانشغال بمحاربة الإرهاب المصطنع

Friday, May 9, 2025

صدمة أميركا من خطأها الاستراتيجي: الانشغال بمحاربة الإرهاب المصطنع

بينما كانت أميركا تطارد أشباح الإرهاب في كهوف أفغانستان وصحارى العراق، كان خصمها الحقيقي يشق طريقه نحو القمة بهدوء واتزان. تحت وهج العمليات العسكرية والتهويل الإعلامي، غفلت واشنطن عن التحدي الأعظم: صعود الصين كقوة عظمى لا تُشهر سلاحًا، بل تفرض نفوذها بالاقتصاد والتكنولوجيا. عقدان من الحروب الاستنزافية انتهت بخسائر استراتيجية، وأهدت بكين وقتًا ذهبيًا للبناء بعيدًا عن الاستفزاز. الآن، تستفيق أميركا على وقع صدمة كبرى: خصمها لم يكن في الجبال والصحارى، بل في الأسواق والمصانع والمعامل. فهل تأخرت الصحوة عن لحظة الفعل؟

أفغانستان

منذ عام 2001، انخرطت الولايات المتحدة في حرب طويلة في أفغانستان، بحجة ملاحقة تنظيم القاعدة وتفكيك طالبان. وبعدها بعامين، غزت العراق تحت ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، تبين لاحقًا أنها وُظّفت لأهداف سياسية واستراتيجية. هذان التدخلان لم يكونا خطرًا وجوديًا على الأمن القومي الأميركي، لكنهما استنزفا مئات المليارات من الدولارات، وأثقلتا كاهل الجيش الأميركي، وفتحا المجال أمام تدخل قوى إقليمية ودولية، مما قوض من الهيمنة الأميركية المنفردة في المنطقة.

العراق

في العراق، أدى انهيار الدولة المركزية إلى صعود الجماعات المسلحة، ودخول إيران كفاعل رئيسي في المشهد السياسي والأمني. وفي أفغانستان، رغم عقدين من الوجود العسكري، انتهى الأمر بانسحاب فوضوي، وعودة طالبان إلى السلطة، في مشهد بدا وكأنه نسف كل مبررات الحرب. تزامن ذلك مع تراجع الثقة بالحلفاء، وتآكل صورة أميركا كقوة قادرة على فرض الاستقرار، ما منح خصومها – خاصة روسيا والصين – هامشًا أوسع للحركة.

الصين

على الجانب الآخر، كانت الصين تتحرك خارج دائرة الرادار العسكري الأميركي. لم تطلق بكين رصاصة واحدة، لكنها أطلقت مشروعات عملاقة كـ"الحزام والطريق"، وبنت شبكة مصالح اقتصادية واستراتيجية حول العالم. استثمرت في البنية التحتية، في التقنية، في التعليم والذكاء الصناعي، وتوسعت في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. خلال فترة انشغال أميركا بالحروب، ضاعفت الصين ناتجها المحلي الإجمالي، ووسعت قوتها العسكرية بصمت، وبدأت بتغيير موازين القوى العالمية من دون مواجهة مباشرة.


الصدمة بعد الاستنزاف

الصدمة التي تعيشها واشنطن اليوم ليست فقط في إدراك حجم الخطأ، بل في صعوبة معالجته. خصم الأمس كان واضحًا، لكن خصم اليوم معقد، مرن، وينافس في كل المجالات: من التجارة إلى التقنيات المتقدمة، من الفضاء إلى الفلسفة السياسية. لقد خسرت الولايات المتحدة زمناً ثمينًا كان يمكن أن يُستثمر في احتواء الصين أو على الأقل موازنة صعودها، لكنها استهلكته في مطاردة عدو مصطنع صُوِّر أكبر من حجمه الحقيقي.

إنّ محاولة تصحيح هذا الخطأ تتطلب ما هو أكثر من تعديل في السياسات الدفاعية أو إعادة تموضع للقواعد العسكرية. الأمر يحتاج إلى مراجعة شاملة للعقيدة الاستراتيجية الأميركية، وفهم أن التهديدات الكبرى لم تعد دائمًا تأتي بصوت الانفجارات، بل أحيانًا بصمت مصانع، وهدوء استثمارات، ومهارة دبلوماسية.

خاتمة

الانشغال الأميركي المطوّل في العراق وأفغانستان لم يكن مجرد حملة عسكرية طويلة، بل خطأ استراتيجي جسيم غيّر موازين القوى العالمية. لقد راهنت واشنطن على تهديد مصطنع، وظنت أن القضاء على الإرهاب في الشرق الأوسط سيضمن تفوقها لعقود، لكنها في الواقع منحت خصومها، وفي مقدمتهم الصين، مساحة ذهبية للنمو والتوسع بهدوء. تجاهل التحدي الصيني لصالح مطاردة جماعات مشتتة في صحارى وجبال بعيدة، لم يُنتج سوى استنزاف داخلي، وتراجع في صورة أميركا الدولية، وفقدان تدريجي لنفوذها المنفرد. هذا الخطأ لا يمكن تبريره بأعذار أمنية، بل يجب أن يُدرَس كنموذج لما يحدث حين تنحرف القوة عن أولوياتها الحقيقية وتفقد بوصلتها الاستراتيجية.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .