
تحولات الاستراتيجيات العالمية: من صديق إلى عدو والعكس بعد الحرب العالمية الثانية
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم يكن العالم كما كان من قبل. التحالفات التي شكلتها الضرورة في مواجهة النازية والفاشية انهارت، وتحولت العلاقات بين المنتصرين إلى صراع على النفوذ والسيطرة. برزت استراتيجيات جديدة للدول العظمى، قائمة على البراغماتية البحتة حيث لا وجود لصديق دائم أو عدو دائم، بل مصالح متغيرة وأولويات أمن قومي تتقلب مع التحولات الجيوسياسية.
الحرب الباردة: بداية الاستقطاب العالمي
مع نهاية الحرب، دخل العالم في مرحلة الحرب الباردة، حيث برز قطبان رئيسيان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وسرعان ما تحولت العلاقة بين الحليفين السابقين إلى عداء حاد، وبدأ الصراع على النفوذ في كل بقعة من العالم، من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
سعت الولايات المتحدة إلى احتواء المد الشيوعي، فيما دعم الاتحاد السوفييتي الحركات الثورية المناهضة للغرب. بدأت لعبة الشطرنج الكبرى على الساحة الدولية، حيث تحكم المصالح الاستراتيجية حركة البيادق، لا المبادئ.
الصين: من خصم أيديولوجي إلى شريك استراتيجي مؤقت
من أبرز الأمثلة على تغير الأصدقاء والأعداء، العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. بعد الثورة الشيوعية عام 1949، كانت بكين تُعد عدواً أيديولوجياً. لكن مع تصاعد التوتر بين الصين والاتحاد السوفييتي، رأت واشنطن فرصة استراتيجية، فحدث التقارب الشهير في السبعينيات، وجرى توظيف الصين كورقة ضغط في الصراع مع موسكو.
أفغانستان: ساحة تدوير الأدوار
في عام 1979، غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان في محاولة للسيطرة على موقع استراتيجي حساس. رأت الولايات المتحدة في ذلك تهديداً مباشراً، فدعمت المجاهدين الأفغان لسنوات حتى انسحاب السوفييت وانهيارهم في مطلع التسعينيات. في تلك المرحلة، تحالفت واشنطن مع أطراف ما كانت لتدعمها في ظروف مختلفة، لكن الضرورة أملت هذا الاصطفاف.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، دخلت الولايات المتحدة أفغانستان بنفسها عام 2001، بحجة محاربة الإرهاب، فوجدت نفسها تخوض أطول حروبها هناك. المفارقة الكبرى، والتي تكشف حجم تقلبات الاستراتيجية، أن روسيا – الوريث الطبيعي للاتحاد السوفييتي – بدأت بدعم قوى مناهضة للوجود الأميركي في أفغانستان، بعضها من ذات الخطوط التي حاربتها موسكو في الماضي. جاء هذا الدعم غير المباشر – سواء بالتنسيق الأمني أو عبر غض الطرف – في إطار استغلال الانهاك الأميركي ومحاولة استعادة نفوذ استراتيجي في المنطقة.
هكذا، تحولت موسكو من خصم للمجاهدين الأفغان إلى جهة داعمة لمعارضي الوجود الأميركي، وهو ما يكشف كيف يعاد تشكيل خريطة الحلفاء والأعداء على أساس الأولويات الظرفية لا المبادئ الثابتة.
القطب الأوحد وتوجس الصين ودعم روسيا
مع سقوط السوفييت، أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد. هذا التفوق أثار توجس الصين التي رأت نفسها الهدف التالي. ورغم خلافها التاريخي مع موسكو، اختارت بكين أن تدعم روسيا في مواجهة التمدد الغربي، إدراكاً منها أن المصلحة الآنية تتطلب بناء جبهة مقاومة متعددة الأقطاب.
المصالح أولاً: لا صديق دائم ولا عدو دائم
توضح هذه الأمثلة أن السياسة الدولية لا تحكمها علاقات ثابتة، بل تتغير التحالفات حسب الضرورة. من دعم واشنطن للصين ضد السوفييت، إلى دعمها للمجاهدين ضد الروس، ثم دعم روسيا لأطراف مناوئة لأميركا في أفغانستان... كل هذه التحولات تكشف حقيقة واحدة: الأمن القومي والمصلحة الاستراتيجية يفرضان الأولويات، لا المبادئ الأيديولوجية أو الروابط التاريخية.
الخلاصة
العلاقات بين الدول الكبرى ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن يوماً قائمة على الثوابت. العالم يتغير، ومعه تتغير التحالفات. ما كان عدواً قد يصبح حليفاً، وما كان شريكاً قد يغدو خصماً، وكل ذلك باسم "الأمن القومي" والمصالح الحيوية. هذه الحقيقة تبقى حجر الزاوية في فهم السياسة الدولية: لا صديق إلى الأبد، ولا عدو إلى الأبد.
نظرة على الوضع الدولي الحالي: صراع الأقطاب في أوكرانيا وتايوان
في سياق التحولات المستمرة في السياسة الدولية، لا يمكن تجاهل الوضع الحالي الذي يبرهن على استمرار مبدأ "لا صديق دائم ولا عدو دائم". الحرب في أوكرانيا، التي بدأت عام 2022، تمثل أبرز الأمثلة الحديثة على استمرارية هذا النمط من الصراع. روسيا، التي كانت تعتبر في السابق الخصم الرئيس للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، أصبحت الآن في مواجهة الغرب مرة أخرى بعد سنوات من التعاون النسبي عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. ولكن، وبسبب التهديدات الجيوسياسية والاقتصادية، أصبحت موسكو تسعى لاستعادة نفوذها في مناطق كانت قد خسرتها، مثل أوكرانيا.
من جهة أخرى، التوترات المتصاعدة في مضيق تايوان بين الصين والولايات المتحدة تُعد اختباراً حقيقياً للتحولات الاستراتيجية. الصين التي كانت حليفاً استراتيجياً لروسيا ضد الهيمنة الغربية، ترى في أميركا تهديداً لمصالحها الإقليمية والعالمية، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى كبح توسع الصين في المنطقة. في هذه المعركة، تلعب المصالح الاقتصادية والأمنية دوراً حاسماً، إذ تتحكم تايوان في صناعة أشباه الموصلات، ما يجعلها ساحة صراع فائق الأهمية للمصالح العالمية.
وهكذا، يستمر العالم في تأكيد واقع أن التحولات في الاستراتيجيات الدولية لا تعرف الثبات، بل هي نتيجة لمصالح قومية متغيرة ومتجددة. أعداء الأمس قد يصبحون أصدقاء اليوم، والعكس صحيح، بما يتماشى مع الأولويات الاستراتيجية التي تفرضها الأوضاع الدولية المستمرة في التغيير.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
