/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

الفرق بين الدعوة الإسلامية والتنصير: جوهر الرسالة وأدوات التأثير

تطرح المقارنة بين الدعوة الإسلامية والتنصير إشكالية معرفية ودعوية عميقة، تتجاوز مجرد التمايز العقدي إلى فروقات جوهرية في المنهج، والأخلاق، والأهداف، والأساليب. فعلى الرغم من أن كليهما يدّعي إيصال "الحق"، إلا أن السياقات التاريخية، والمرجعيات الدينية، وأدوات التأثير، تضع كلًا منهما في إطار مختلف تمامًا. في هذا المقال، نسلط الضوء على الفروق الجوهرية بين الدعوة الإسلامية والتنصير، ونكشف كيف أن الاختلاف لا يكمن فقط في المعتقد، بل في طريقة عرض المعتقد، والغاية منه، ووسائل الوصول إليه.


أولًا: المصدر والغاية

الدعوة الإسلامية تستند إلى توحيد خالص لله، وغايتها الهداية، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. الرسالة هنا ذات طابع شمولي روحي وأخلاقي، لا تسعى إلى تحويل الناس قسرًا، بل تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة.

أما التنصير (أو التبشير المسيحي)، فهو غالبًا ما يرتبط بترويج لمفاهيم لاهوتية غير عقلية في جوهرها (كالتثليث والفداء)، ويهدف إلى توسيع رقعة الانتماء للكنيسة، مما يجعل البُعد المؤسسي والسياسي حاضرًا بقوة، خاصة في المناطق المستضعفة.

ثانيًا: الوسائل والأساليب

الدعوة الإسلامية تقوم في أصلها على البلاغ المبين، والاعتماد على الكلمة، والموعظة، والنموذج الحي، دون استغلال لحاجة الناس أو فقرهم. بل إن من شروط قبول الإسلام أن يكون عن علم ويقين ورضا. وقد حذّر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الإكراه في الدين بقوله تعالى: "لا إكراه في الدين".

بينما التنصير في ممارساته الحديثة كثيرًا ما يرتبط بالمساعدات الإنسانية المشروطة، أو التدخل في مناطق الأزمات، بحيث يتم خلط الإغاثة بالمعتقد، فيُعرض الدين كثمن للخدمات الأساسية. وهذا يفتح الباب أمام تساؤلات أخلاقية جوهرية حول مشروعية الإقناع تحت ظرف الحاجة.

ثالثًا: العلاقة بالسياسة والاستعمار

لقد ظلت الدعوة الإسلامية عبر قرون طويلة منفصلة عن طموحات التوسع السياسي أو الاستغلال الاقتصادي. حتى عندما انتشر الإسلام خارج جزيرة العرب، لم يُفرض بالقوة، بل دخلت شعوب كثيرة في الإسلام من خلال التجار والدعاة والسلوك الأخلاقي للمسلمين.

في المقابل، ارتبط التنصير تاريخيًا بحركات الاستعمار الأوروبي، حيث كان المبشرون في طليعة الحملات الاستعمارية، أو ملحقين بها، وتم استخدام التعليم والطب والإعلام في تغيير هوية الشعوب ثقافيًا ودينيًا تمهيدًا لإعادة تشكيلها وفق مصالح القوى الكبرى.

رابعًا: النظرة للآخر

الإسلام يعترف بوجود أهل الكتاب، ويقر لهم بالعيش ضمن الدولة الإسلامية دون أن يُطلب منهم ترك دينهم قسرًا، ما داموا ملتزمين بالعقد الاجتماعي. كما أنه يعترف بوجود الحق الجزئي عند غير المسلمين، ويفتح المجال للنقاش العقلي.

بينما يُظهر الخطاب التنصيري غالبًا استعلاءً دينيًا تجاه غير المسيحيين، ويعتبرهم "ضلّالًا" يجب إنقاذهم، دون الاعتراف بإمكان وجود الحق خارج الكنيسة أو الصليب، مما يضيق الأفق العقلي ويمنع التلاقي الإنساني الناضج.

خامسًا: أثر الرسالة على السلوك والمجتمع

الدعوة الإسلامية، في حالتها المثلى، تُنتج إنسانًا مسؤولًا، يرتبط بخالقه، ويخدم مجتمعه، ويقوم على منظومة أخلاقية واضحة. وهي تسعى لخلق أمة واعية قادرة على النهوض بذاتها دون تبعية.

أما التنصير، خصوصًا في نسخه المعولمة، فقد يفرغ الفرد من هويته، ويفصله عن بيئته الثقافية، ويعيد تشكيله ضمن قوالب غربية تستهلك دون أن تُنتج، وتؤمن دون أن تفكر، مما يؤدي إلى تصدعات مجتمعية وفقدان للتوازن الحضاري.

خاتمة

الفرق بين الدعوة الإسلامية والتنصير ليس مجرد اختلاف بين ديانتين، بل هو تباين في النظرة إلى الإنسان، وطريقة التعامل مع ضعفه، والوسيلة المستخدمة في الوصول إلى قلبه وعقله. الإسلام يرفع من شأن العقل، ويراعي الفطرة، ويحرص على كرامة الإنسان حتى في لحظة الاختلاف. أما التنصير، فغالبًا ما يغلب عليه الطابع الدعائي القائم على الاستغلال، أو التوظيف السياسي والديني لمآسي الناس.

ويبقى أن الحكم النهائي يتجلى في أثر كل دعوة على الواقع، وفي نوع الإنسان الذي تُنتجه، وفي طبيعة المجتمع الذي تُبنى على أساسه.

أحدث أقدم