
لم يكن الاحتلال الغربي للشعوب مجرد هيمنة على الأرض والثروات، بل امتدّ ليشمل الهيمنة على الأجساد نفسها. ففي كل حرب كبرى خاضتها الإمبراطوريات الأوروبية، لجأت إلى تجنيد أبناء مستعمراتها قسرًا، لتدفع بهم إلى ساحات قتال لا ناقة لهم فيها ولا جمل. تحت شعارات زائفة عن "الولاء للإمبراطورية" و"الدفاع عن الحضارة"، زُجّ بملايين الهنود، والأفارقة، والعرب في معارك خارج حدود بلادهم، يخوضون حروبًا صاغ قراراتها سياسيون لم يعرفوهم، ويقاتلون أعداء لا يعرفون عنهم شيئًا. لقد كانت هذه الجيوش المستعمَرة مجرد وسيلة لتعويض العجز العددي الذي عانته أوروبا، وتكريس هيمنتها العالمية بأقل تكلفة بشرية من أبنائها.
الهند: وقود بشري في آلة الحرب البريطانية
منذ بداية الحرب العالمية الأولى، أصبحت الهند المصدر الرئيسي للجنود في الجيش البريطاني الإمبراطوري.
- أكثر من 1.3 مليون جندي هندي شاركوا في الحرب الأولى، وقاتلوا في جبهات تمتد من فرنسا إلى العراق.
- في الحرب الثانية، ارتفع الرقم إلى نحو 2.5 مليون جندي، خاضوا المعارك في شمال أفريقيا، وشرق آسيا، وأوروبا.
رغم التضحيات الهائلة، ظلوا مهمَّشين في كتب التاريخ الغربي، وغابت صورهم عن الاحتفالات بالنصر.
أفريقيا: رجال من الظل في حرب البيض
جندت فرنسا وبريطانيا عشرات الآلاف من أبناء مستعمراتها في غرب وشرق أفريقيا:
- السنغاليون، الماليون، الكينيون، النيجيريون وغيرهم جُندوا في ما عُرف بـ"القوات الأصلية" (Tirailleurs).
- قاتلوا في أوروبا وساهموا في تحرير دول استعمارية، بينما لم تتحرر بلادهم.
- لم يُمنحوا المساواة في الرواتب أو التكريم، بل جُرِّد كثير منهم من حقوقهم بعد انتهاء الحروب.
مصر: اليد العاملة في معارك الآخرين
رغم أن مصر لم تكن دولة محاربة رسميًا في الحرب العالمية الأولى، فإن الاحتلال البريطاني سخّرها كمصدر لوجستي وديموغرافي:
- أنشأت بريطانيا ما يُعرف بـ"فيلق العمال المصريين" (Egyptian Labour Corps).
- جُند مئات الآلاف للعمل في النقل والحفر والتموين في جبهات فلسطين وسيناء وفرنسا.
- لم يقتصر الأمر على الخدمات؛ فقد وجد المصريون أنفسهم أحيانًا في مرمى النيران، دون تدريب ولا تسليح كافٍ.
وكان هذا الاستغلال المباشر أحد شرارات ثورة 1919، التي طالبت بالكرامة الوطنية والسيادة.
مأساة أفغانستان: إبادة جيش هندي في حرب بريطانية
ربما لا توجد واقعة تُجسد مأساة تجنيد المستعمرات أكثر من محاولة بريطانيا غزو أفغانستان عام 1839:
- استعانت بريطانيا بآلاف الجنود الهنود في حملتها العسكرية لاحتلال كابل.
- بعد مقاومة أفغانية شرسة، حاولت القافلة البريطانية–الهندية الانسحاب من كابل شتاء عام 1842.
- قُتل ما يقارب 16,000 شخص في طريق الانسحاب، معظمهم جنود هنود، في واحدة من أكثر الانسحابات العسكرية دموية في التاريخ الحديث.
- لم ينجُ إلا شخص واحد وفق الرواية البريطانية: الطبيب "ويليام برايدون"، الذي وصل إلى جلال آباد جريحًا، يروي مأساة جيش أُرسل ليُباد.
الضعف العددي لأوروبا وخططها البديلة
رغم تفوقها الاقتصادي والعسكري، كانت أوروبا تعاني من ضعف عددي نسبي في القوى البشرية، لا سيما في ظل الحروب الممتدة والمرهقة. هذا الضعف دفعها إلى:
- استغلال مستعمراتها بوحشية لتعويض النقص في الجنود.
- وفي المراحل المتأخرة من الاستعمار وما بعده، بدا أن الغرب تعمّد فتح أبواب الهجرة الطوعية من تلك المستعمرات السابقة، خصوصًا من آسيا وأفريقيا، ليس فقط بدافع اقتصادي أو إنساني، بل أيضًا كجزء من استراتيجية مستقبلية.
- مع تعاظم التهديدات الأمنية الحديثة واحتمالات اندلاع حروب جديدة، تُطرح تساؤلات مشروعة حول إمكانية استخدام هؤلاء المهاجرين وأبنائهم كاحتياطي بشري ضمن السياسات الدفاعية والعسكرية، كما حدث من قبل ولكن بأدوات أكثر نعومة.
إنها هجرة مشروطة بثمن مؤجل، قد يظهر وقت الحاجة، حيث تُستدعى الولاءات الهشة لتخدم نفس المنطق الاستعماري القديم ولكن بصيغة جديدة.
العدالة الغائبة والسردية المختطفة
حتى اليوم، لا تزال هذه الجيوش منسية في التاريخ الرسمي للدول الغربية. لم يُعترف بمساهمتها كما يجب، ولم تُعوَّض عن خسائرها، لا ماديًا ولا رمزيًا. بل في كثير من الأحيان، تم طمس قصصها عمداً حتى لا تنكشف حقيقة أن انتصارات الإمبراطوريات بُنيت على أكتاف الآخرين.
خاتمة: حين يُستخدم البشر كأدوات
في الحروب الكبرى، كما في الحروب المنسية، كان الجنود من المستعمرات مجرد أدوات يُلقى بها في نار المعارك. لم تُحترم إنسانيتهم، ولا هويتهم، ولا أوطانهم. لقد خدموا إمبراطورياتهم قسرًا، وماتوا من أجلها صمتًا. واليوم، لا بد من إعادة النظر في سرديات التاريخ التي مجدت قادة الحروب وتجاهلت من قاتلوا فعليًا فيها.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
