
مشاريع مفروضة تفيد المانحين لا الاقتصادات الضعيفة
عندما تحصل دولة ما على قرض من البنك الدولي، فإنها لا تملك حرية كاملة في تقرير أوجه صرفه. المشاريع غالبًا ما تُحدَّد مسبقًا أو تُوَجَّه من خلال مكاتب استشارية دولية، بما يتوافق مع نماذج تنموية جاهزة لا تراعي خصوصية كل اقتصاد. تُركّز هذه المشاريع على البنية التحتية، أو "الإصلاح المؤسسي"، لكنها نادرًا ما تستثمر في القطاعات الإنتاجية أو تنقل المعرفة الفنية. بهذا، تُستهلك القروض دون أن تخلق موارد اقتصادية مستدامة أو تُمكِّن الدولة من الوقوف على قدميها.
النخب السياسية: المستفيد الخفي من الديون
المفارقة أن كثيرًا من هذه القروض لا تُفرض على الحكومات، بل تُطلب منها طوعًا. فبعض النخب السياسية تجد في القروض فرصة لتقوية سلطتها الداخلية؛ فهي وسيلة للحصول على موارد مالية دون مساءلة محلية تُذكر. قد تُستخدم الأموال في مشاريع شعبوية، أو تُوجَّه إلى شبكات محسوبية، أو تُعقَد بها صفقات مع مقاولين مقربين. النتيجة: تنمية ظاهرية تُخفي تحتها تعزيزًا للبُنى السلطوية، وليس لبُنى الاقتصاد الوطني. ويُترك الشعب في مواجهة فاتورة لم يشارك في قرارها ولا يجني ثمارها.
البنك الدولي: تمويل مشروط وسيطرة دائمة
البنك لا يكتفي بإقراض الأموال، بل يربط ذلك بما يسميه "الإصلاحات البنيوية"، وهي سلسلة شروط تتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية. تشمل هذه الشروط تقليص الدعم الحكومي، تحرير السوق، خصخصة المؤسسات العامة، وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية دون قيود. هذه السياسات، رغم أنها تُطرح كوسيلة لتعزيز الكفاءة، أدّت في كثير من الحالات إلى إضعاف قدرة الدولة على التدخل في اقتصادها، وتحويلها إلى تابع للقرار الخارجي. وغالبًا ما تُطبَّق هذه الشروط بسرعة تفوق قدرة المؤسسات المحلية على التكيّف، ما يؤدي إلى تفكك البنى الاجتماعية والاقتصادية القائمة.
من التجربة إلى الشواهد: من المستفيد؟ ومن المفلس؟
نماذج لدول
استفادت:
- كوريا الجنوبية (1960–1980): وظّفت القروض في تطوير الصناعة والتعليم، مع تمسكها بسيادتها في رسم السياسات.
- فيتنام (بعد 1990): استثمرت في الزراعة والبنية الاجتماعية، ورفضت شروطًا تمس دور الدولة.
- الأرجنتين (2001): أفلس اقتصادها بعد اتباع سياسات الخصخصة الكاملة.
- زامبيا (الثمانينات): انهار اقتصادها بعد تفكيك القطاع العام.
- سريلانكا (2022): مشاريع بلا جدوى راكمت ديونًا أودت بالاستقرار المالي.
دورة مفرغة من الديون
لا تتوقف المسألة عند قرض واحد. غالبًا ما تدخل الدول المدينة في حلقة مفرغة: تقترض لسد عجز الموازنة، ثم تعجز عن السداد بسبب غياب العوائد من المشاريع، فتقترض مجددًا بشروط أشد. بهذا، تُستنزف الميزانيات في خدمة الديون، وتُقصى الاستثمارات المحلية المنتجة، ويُعاد تشكيل الاقتصاد بما يناسب الدائنين لا المواطنين.
من يستفيد حقًا؟
رغم الطابع "التنموي" المعلن، فإن البنك الدولي جهة ربحية؛ يحصل على فوائده من القروض، ويُلزم الدول المدينة بالاستعانة بشركات ومكاتب استشارية أجنبية، أغلبها من الدول المانحة. النتيجة: جزء كبير من المال يعود إلى تلك الدول على شكل عقود وخدمات، بينما تظل الدول المدينة تتحمل التبعات. لا تنمية مستدامة، ولا بناء ذاتي، بل إعادة تدوير المال في دائرة مغلقة لصالح الأطراف الأقوى.
كيف نخرج من هذه الحلقة؟
إن كسر
هذه الدائرة
لا يتحقق
بالتمنيات، بل
بإجراءات واعية،
أهمها:
- شفافية محلية في إدارة القروض.
- رقابة شعبية وتشريعية على أولويات المشاريع.
- استثمارات موجهة نحو الإنتاج ونقل المعرفة.
- رفض الشروط التي تمس السيادة الاقتصادية.
خاتمة
قروض البنك الدولي ليست شرًّا في ذاتها، لكنها تتحول إلى أداة فشل حين تُدار دون رؤية وطنية، أو تُستغل لترسيخ النخب على حساب الشعوب. المطلوب ليس فقط الحذر عند الاقتراض، بل إعادة تعريف مفهوم "التنمية" ذاته: أن تكون نابعة من الاحتياجات المحلية، قائمة على الإنتاج لا الاستهلاك، وعلى الشراكة لا التبعية.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
