فروق: أنور خوجة: الديكتاتور الذي أغلق أبواب السماء

Friday, May 9, 2025

أنور خوجة: الديكتاتور الذي أغلق أبواب السماء

في قلب البلقان، حيث تلتقي التحديات السياسية والثقافية، نشأ رجل يُعتبر من أكثر الطغاة إصرارًا على فرض إرادته على الجميع، كان أنور خوجة، الديكتاتور الذي حول ألبانيا إلى دولة مغلقة، يطارد كل فكرة دينية، ليجعل من بلاده أول دولة ملحدة رسميًا. تحت حكمه، اختفى الدين من الحياة اليومية، والمساجد والكنائس أغلقت أبوابها، والشعب كان يعيش في خوف دائم من المراقبة والتجسس. لكن مع موته، لم تقتصر التغيرات على سقوط نظامه، بل بدأت ألبانيا في اكتشاف نفسها من جديد، والبحث عن هويتها المفقودة في بحر من القيود بعد مرارة الاستبداد لأكثر من أربعين عامًا؟

أنور خوجة: الديكتاتور الذي أغلق أبواب السماء

في قلب جبال البلقان، وبين حدود ممزقة بالأطماع والاضطرابات، ظهرت في القرن العشرين دولة صغيرة بحجمها، لكنها ضخمة في قصتها مع العزلة والقمع. إنها ألبانيا، التي وقعت تحت قبضة رجل اسمه أنور خوجة، حكمها بقبضة حديدية امتدت لأكثر من أربعة عقود.
لم يكن مجرد زعيم، بل مهندس دولة لا تشبه غيرها، أقام جدرانها حول شعبه، وسدّ عليهم كل نافذة تطل على الخارج، بل حتى تلك التي تفتح نحو السماء.


صعود الرجل الحديدي

أنور خوجة، وُلد في 1908 في مدينة جيروكاستر جنوب ألبانيا، وبرز في شبابه بتعلّقه بالأفكار الماركسية. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، قاد الحزب الشيوعي المحلي للسيطرة على البلاد بدعم من يوغسلافيا ثم الاتحاد السوفيتي. وفي عام 1946، أعلن جمهورية ألبانيا الشعبية، ليبدأ فصلًا من أشد فصول الديكتاتورية في أوروبا.

رفض خوجة كل حلفاء الأمس. قطع مع يوغسلافيا بعد خلافات مع تيتو، ثم مع السوفييت بعد تقاربهم مع الغرب في عهد خروتشوف، ثم مع الصين نفسها بعد تقاربها مع أمريكا. وهكذا، تحوّلت ألبانيا إلى أكثر الدول عزلةً في العالم، لا تتبع أحدًا، ولا تثق بأحد.


الحرب على الإيمان: إغلاق المساجد والكنائس

في عام 1967، أعلن أنور خوجة أن ألبانيا أصبحت أول دولة "ملحدة رسميًا" في التاريخ.
أُغلقت المساجد والكنائس، وجرى تحويل بعضها إلى مخازن أو قاعات رياضية. حُظر ارتداء الرموز الدينية، وأُعدم أو سُجن عدد من رجال الدين، وصار الحديث عن الإيمان سببًا للاعتقال.
وبينما كان الشعب الألباني ذو الأغلبية المسلمة يحتفظ بإسلامه في القلب والبيت، لم يكن يسمح لهم بممارسته علنًا، ولا حتى تعليمه لأبنائهم.

لم تكن حرب خوجة على الإسلام فحسب، بل على كل ما هو غيبي. اعتبر الدين أداة استعمارية، والقيم الروحية "أوهامًا برجوازية". وهكذا، نشأت أجيال كاملة لا تعرف من دينها شيئًا سوى ما تهمس به جدّة عجوز خلف باب مغلق.


الدولة التي تجسست على أنفاسها

أقام خوجة واحدة من أقوى شبكات الأمن في أوروبا، جهاز "سيغوريمي"، الذي زرع العيون حتى في غرف الجلوس. الأخ يراقب أخاه، والابن يكتب تقارير عن أبيه. لا تساهل، لا مزاح، لا أسرار تُقال بصوت مرتفع.
من أراد أن يعيش، فعليه أن يصمت.
من أراد أن يصلي، فعليه أن يختبئ.
ومن أراد أن يعارض، فمصيره المنفى... أو المقبرة.


السقوط بهدوء... ثم الانفجار

في عام 1985، مات أنور خوجة ميتة طبيعية، لكن نظامه بقي حيًا من بعده لعدة سنوات. لم يُحاكَم، لم يُنقل في قفص، بل دُفن وسط جنازة رسمية، وورثه نظام يحمل نفس الوجه باسم مختلف.

لكن ألبانيا لم تكن بمعزل عن رياح التغيير. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، تهاوى النظام الألباني بدوره. عام 1991، فُتحت المساجد من جديد، وعاد الأذان يُسمع في المدن.
عاد الإسلام إلى الواجهة، لكن في ظل جيلٍ تربى على الخوف والصمت، ووسط دولة منهكة اقتصاديًا واجتماعيًا.


ألبانيا اليوم... بعد خوجة

خرجت ألبانيا من عباءة الشيوعية، لكنها لم تخرج بسهولة من آثارها. دخلت في مرحلة انتقالية مضطربة، عاش فيها الناس الفوضى بعد عقود من الصمت.
الإسلام عاد بقوة، لكن دون مؤسسات أو تعليم ديني راسخ. وفي المقابل، حاولت بعض الدول دعم إعادة الإحياء الديني، سواء على مستوى المساجد أو التعليم، لكن الحذر ظل حاضرًا.

اليوم، ألبانيا دولة ذات نظام ديمقراطي شكلي، أكثرية سكانها من المسلمين (سنة)، إلى جانب أقليات مسيحية أرثوذكسية وكاثوليكية. لكنها لا تزال توازن بين هويتها الدينية وتاريخها القريب مع الإلحاد الإجباري.


خاتمة

أنور خوجة لم يكن طاغية تقليديًا؛ لم يكن يبحث عن الثروة الشخصية، بل سعى لفرض عالم مغلق يُشبه ما يؤمن به.
لكنه، في سعيه لبناء "يوتوبيا" شيوعية، دمّر الدين، وقمع الفكر، وأغلق على شعبه كل الأبواب.
مات الرجل، لكن إرثه ما زال يُناقش في شوارع تيرانا، بين من يراه رمزًا للاستقلال، ومن يراه لعنةً فصلت الناس عن دينهم وتاريخهم.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .