
في زمنٍ تُشكّل فيه وسائل التواصل الاجتماعي نافذة الشعوب إلى التعبير، يبدو أن هذه النافذة تُفتح على طرف وتُغلق على آخر، تبعًا لميزان غير عادل اسمه الهيمنة السردية.
رغم أن كثيرًا من المنشورات المتعاطفة مع قضية فلسطين تُحذف أو تُقيَّد على منصات مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك، إلا أنها لا تزال تجد طريقها إلى الجمهور. فكيف يحدث ذلك؟ السبب لا يعود فقط إلى ذكاء النشطاء، الذين ابتكروا طرقًا للتحايل على خوارزميات الحذف من خلال الصور والرموز واللغات المتداخلة، بل إلى إصرار شعبي عابر للحدود، يعيد النشر مرة بعد مرة، ويتنقل من منصة إلى أخرى، وينقل الرواية إلى المنابر الأقل رقابة مثل تيليغرام أو بعض المنصات الجديدة الصاعدة.
لكن المدهش أكثر، أن المؤسسات الإخبارية الكبرى ــ حتى تلك التي تغطي القضية بشكل جريء ــ لا تواجه الحظر ذاته. لماذا؟ الجواب في السياسة. فالمؤسسات الإعلامية تحمل صفة "موثوقة"، ما دامت تلتزم بلغة تقريرية خالية من العواطف الصريحة أو الدعوات المباشرة. حتى لو نقلت صورًا دامية أو روايات قاسية، فهي محصنة بلباس المهنية. أما حين يكتبها شخصٌ عادي بلغة وجدانية غاضبة، تُصنَّف منشوراته فورًا تحت بند "التحريض"!
ولعل السؤال الأكثر مرارة هو: لماذا تُقابل آراء منتقدة بعنف، بينما يُبرر العنف الواقعي الصادر من الطرف الأقوى أو يُقابل بالصمت؟
الجواب هنا أعمق، ويتعلق بما يُعرف بـ"السيطرة على السردية". من يملك الإعلام، ويُؤثّر في القرار السياسي العالمي، يستطيع أن يُعرّف ما هو العنف، وما هو "حق الدفاع عن النفس". يُمنح القوي صكوك تبرير لا تنضب، بينما تُصوَّر مقاومة الضعيف كإرهاب مهما كانت شرعيتها.
إضافة إلى ذلك، فإن جماعات ضغط ضخمة، لها حضور اقتصادي وسياسي وإعلامي، تعمل بفعالية على حماية صورة طرف وتدمير صورة الطرف الآخر. وفي ظل هذه القوة، تتشكل سرديات عالمية تقلب الحق باطلًا والضحية جانيًا.
أخطر ما في الأمر، أن هذه السرديات تُغلف بقيم نبيلة ظاهريًا: "السلام"، "الاعتدال"، "رفض الكراهية". لكنها في العمق تُستخدم لقمع صوت المظلوم ما إن يصرخ، ولتبرير بطش الظالم ما دام يحمل التفوق التقني أو الحظوة السياسية.
وفي النهاية، لا يتعلق الأمر بحرية التعبير، بل بمن يملك الحق في أن يُعرّف ما هو المقبول وما هو الممنوع، ما هو إنساني وما هو متطرف.
وفي هذا العالم، الحقيقة لا تُقاس بوضوحها، بل بمن يُسمح له أن يقولها.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
