
فهل نحن بالفعل أمام شرق أوسط متعدد الأقطاب؟ أم أن هذا التعدد مجرد ظاهرة مؤقتة سرعان ما ستذوب تحت ضغوط الأزمات التقليدية والصراعات المتجددة؟
الخليج: من الاستقطاب إلى تنويع الشراكات
شهدت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، تغيرات استراتيجية واضحة في سياستها الخارجية. فبعد أعوام من المواجهة المفتوحة مع إيران، اتجهت الرياض نحو التهدئة، بل ووقعت اتفاقًا لإعادة العلاقات الدبلوماسية بوساطة صينية. هذه الخطوة لم تكن معزولة، بل ترافقت مع تغييرات في الخطاب الخليجي تجاه ملفات مثل سوريا واليمن.
من جهة أخرى، تستمر الإمارات في بناء نفوذها الجيوسياسي من خلال حضور نشط في إفريقيا، والمشاركة في ممرات التجارة العالمية، إلى جانب إقامة علاقات مع قوى آسيوية كالهند والصين.
قطر: سياسة التوازن والوساطة الفاعلة
تواصل قطر انتهاج سياسة خارجية فريدة تمزج بين الحضور الإعلامي والوساطة الدبلوماسية. فمع حفاظها على علاقات مع تركيا وإيران، لم تنقطع عن التنسيق الأمني والسياسي مع الولايات المتحدة، بل لعبت دورًا فاعلًا في ملفات إقليمية حساسة، أبرزها الأزمة في غزة والمفاوضات حول السودان.
تضع الدوحة نفسها كقوة تواصل لا تلتزم بمحور ثابت، بل تستثمر في التوازن لتعظيم نفوذها الإقليمي.
مصر: محاولة استعادة الدور في ظل ضغوط الداخل
رغم سعي القاهرة لاستعادة مركزيتها في النظام العربي، خصوصًا عبر وساطاتها المتكررة في الملف الفلسطيني، إلا أن تراجعها الاقتصادي وازدياد اعتمادها على الدعم الخليجي قلّل من هامش تحركها المستقل. المواقف المصرية تميل اليوم إلى الحذر، مع التزام بالتوازن بين العواصم الكبرى، دون الانخراط في تحالفات إقليمية حادة.
المغرب والأردن: استقلالية محسوبة وتفاعل مرن
يبدو المغرب حريصًا على لعب دور مركب يجمع بين علاقته المتقدمة مع إسرائيل، وشراكته التاريخية مع أوروبا، مع الحفاظ على عمقه الإفريقي والعربي. أما الأردن، فيمارس نوعًا من الحياد النشط، مستثمرًا رمزية دوره في القدس وارتباطه المباشر بالملف الفلسطيني، دون الانجرار إلى محاور متصارعة.
شرق أوسط متعدد الأقطاب؟ ملامح وتحفظات
التحولات الجارية لا تعني بالضرورة أننا أمام نظام إقليمي مستقر متعدد الأقطاب. فما نشهده قد يكون أقرب إلى حالة "تحرر مؤقت" من الاستقطاب، وليس إعادة تشكيل كاملة. ذلك أن هشاشة البُنى السياسية، واعتماد الاقتصادات على الخارج، وسرعة تقلب التحالفات في المنطقة، كلها عوامل تجعل من الصعب الحديث عن تعددية مستقرة ومستدامة.
خاتمة: الفرصة الضائعة أم البداية الفعلية؟
ما يجري حاليًا يشكّل لحظة اختبار حقيقية للنخب العربية. فإما أن تنجح هذه الدول في تحويل التنوع في التموضع السياسي إلى تنسيق تكاملي يخدم القضايا الإقليمية، أو تعود عاجلًا أو آجلًا إلى مربعات الاصطفاف والانقسام.
إن بناء شرق أوسط متعدد الأقطاب ليس مجرد نتيجة للتحولات، بل يحتاج إلى إرادة سيادية، ومؤسسات صلبة، ورؤية استراتيجية تتجاوز ردود الفعل إلى الفعل البنّاء.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
