
أزمة الثقة: أعراض لا تُخفى
باتت المؤسسات الرسمية، من القضاء إلى التعليم، من الصحة إلى الإعلام، محط شك وسخرية في المخيال الجمعي للشباب العربي. فكلما ازداد وعي هذا الجيل وتواصله مع العالم، انكشفت أمامه هشاشة أنظمته وازدواجية معاييره. الانتخابات شكلية، فرص العمل محجوزة للمحسوبين، الخطاب الرسمي منفصل عن الواقع، والمؤسسات الأمنية فوق المحاسبة. في بيئة كهذه، لا يُستغرب أن تترسخ قناعة لدى كثير من الشباب بأن النظام العام لا يُصلح، بل يُستبدل.
البطالة والانسداد الاقتصادي: وقود الرفض
بحسب تقارير دولية، تبقى معدلات البطالة بين الشباب العربي من الأعلى عالميًا، وقد تتجاوز في بعض الدول 30%. ولكن الأرقام وحدها لا تعكس الكارثة. ما يحدث هو قتل يومي للكرامة، حين يُعامل الشاب بوصفه عبئًا، لا مشروعًا. حتى من يملك المؤهلات، يصطدم بسوق عمل مغلق، وقطاع خاص هش، وفساد يلتهم فرص التقدم.
الاستبداد والجمود السياسي: غياب الأفق
منذ ما سُمّي بـ"الربيع العربي"، فشلت معظم الأنظمة في إنتاج صيغة حُكم تُعيد إشراك الشباب في الفضاء العام. بل إن كثيرًا منها لجأ إلى المزيد من القمع والتضييق، مما عمّق مشاعر الغربة داخل الأوطان. لم تعد فكرة الإصلاح من الداخل قابلة للتصديق لدى الأجيال الجديدة، بل صارت تُرى كذر للرماد في العيون.
وسائل التواصل: النافذة التي فجّرت الانكشاف
في زمن الرقمنة، لا يمكن احتكار الرواية أو التحكم في الوعي كما في السابق. يشاهد الشباب يوميًا نماذج حكم عادلة، واقتصادات ديناميكية، ومجتمعات تُحاسب مسؤوليها. هذه المقارنة المؤلمة تولّد إحساسًا دائمًا بالغبن، وتغذي الرغبة في الهروب أو الثورة. الهجرة لم تعد فقط بحثًا عن لقمة العيش، بل صارت طلبًا للعدالة والكرامة.
الهجرة والانفجار: وجهان لمأزق واحد
ليس كل من يفقد الأمل يهاجر، فهناك من ينفجر. وحين تغيب المسارات السياسية الشرعية، يصبح العنف خيارًا مُغريًا للبعض، لا لأنهم متطرفون، بل لأنهم معزولون عن التأثير. من هنا تأتي خطورة استمرار الانفصال بين الدولة وشبابها: فالطرد المستمر من الحياة العامة لا يولّد السكون، بل الاحتقان.
هل من مخرج؟
إعادة بناء الثقة تبدأ من الاعتراف بالأزمة، لا بإنكارها. لا يمكن الحديث عن استقرار دون عدالة اجتماعية، ولا عن تنمية دون مشاركة حقيقية. إصلاح التعليم، استقلال القضاء، إنهاء الفساد، وفتح المجال العام للحوار والتعبير، هي خطوات أولى. لكنها تتطلب إرادة سياسية تتجاوز منطق التحكم إلى منطق الشراكة.
خاتمة
الانفجار أو الهجرة ليسا قدرًا، بل نتيجة سياسات وإخفاقات طويلة. لكن أمام أنظمة تعرف جيدًا ما لا تريده، وتجهل غالبًا ما تريده، يبقى الشباب العربي وحيدًا في معركة استعادة المعنى. المعركة ليست فقط على لقمة العيش، بل على الحق في وطن يُشبه أحلامهم.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
