جذور الجزيرة: الممالك المنسية قبل الإسلام
في الوعي الجمعي العربي، تُصوَّر الجزيرة العربية قبل الإسلام كفراغ صحراوي شاسع، يملؤه البدو الرحّل، وتغيب عنه معالم الدولة والحضارة. وقد ترسّخ هذا التصوّر نتيجة تداخلات متعددة: من السرديات الاستشراقية التي همّشت تاريخ العرب، إلى بعض الخطابات الدينية التي ركّزت على انبثاق النور المحمّدي من الظلام الجاهلي، دون الالتفات إلى تعقيد المشهد السياسي والثقافي السابق.
لكنّ الحقيقة أن الجزيرة لم تكن هامشًا في التاريخ، بل كانت مركزًا نشطًا لحضارات وممالك وكيانات سياسية متنافسة، تمتد من اليمن جنوبًا إلى تخوم الشام شمالًا، ومن أعماق الربع الخالي شرقًا إلى البحر الأحمر غربًا. عرفت هذه الأرض التجارة المنظمة، والأنظمة الملكية، والتحالفات الإقليمية، بل حتى الصراعات الأيديولوجية والدينية، قبل قرون من الإسلام.
لقد نشأت على هذه الأرض ممالك قوية كـ"سبأ" و"حمير" و"كندة" و"الأنباط" و"الحيرة" و"الغساسنة"، وكان لها علاقات مع الفرس والرومان وبيزنطة والحبشة، وتداخلات مع الديانات الكبرى كاليهودية والمسيحية والوثنيات المحلية. كما أفرزت نظم حكم وإدارة، ونقوشًا تشهد على وعي قانوني واجتماعي متقدّم، لا يتماشى أبدًا مع وصف "الجاهلية" بمعناها المطلق.
في هذه السلسلة، نحاول إعادة قراءة هذا التاريخ المنسي. لا بقصد تمجيده، ولا لنقض ما بعده، بل لفهمه كمرحلة تأسيسية في تشكّل الوعي العربي، السياسي والديني والاجتماعي. سنفكك الخطابات السائدة، ونعيد رسم صورة تلك الممالك، لنكشف كيف تأسست، ولماذا سقطت، وما الذي بقي منها في ذاكرتنا اليوم.
