
لم يعد الإنسان في عصرنا يعيش ذاته كما وُلدت، بل بات يعيش نسخة أُعيدت صياغتها وفق مقاييس الحداثة وتسارع التقنية. لقد تحوّل من كائن يسعى للحرية والمعنى، إلى فرد محاصر بأدواته الرقمية، مطوّق بشبكات السوق والاستهلاك، محكوم بمنظومات ذوق وقيم لم يخترها بنفسه. الحرية التي طالما كانت جوهر الوجود الإنساني، انزلقت شيئًا فشيئًا إلى قيود ناعمة، تُمارَس باسم الاختيار بينما هي في حقيقتها هندسة دقيقة للعقل والسلوك.
في هذا السياق، تبدّلت الهوية من كونها تجربة ذاتية حرة، إلى كونها هوية مُعلّبة تُسوَّق وتُدار عبر منصات الثقافة السطحية. الذوق لم يعد نتاج تربية جمالية أو تجربة شخصية، بل أصبح صناعة مبرمجة عبر الإعلانات والخوارزميات، بينما العلاقات الإنسانية انكمشت إلى تفاعلات عابرة، لا يتجاوز عمقها شاشة الهاتف.
هذه السلسلة محاولة لتفكيك هذا التحوّل العميق الذي يعيشه الإنسان المعاصر: كيف تحوّل من ذات حرة إلى فرد معزول، وكيف أعادت القوى الثقافية والاقتصادية والسياسية تشكيله من الداخل. إننا نتتبع آليات السيطرة على العقل والروح في عصر التفكك الرقمي، ونحاول أن نضيء الطريق نحو استعادة الإنسان لذاته الأعمق، حيث الحرية ليست وهمًا استهلاكيًا، بل وعيًا متجذرًا ومعنى يُستعاد.
