
فما الذي يدفع هاتين القوتين الإقليميتين للتقارب رغم خلافاتهما؟ وما هي مكاسب كل طرف من هذا التوازن الدقيق؟
- خلفيات هذا التقارب بين موسكو وأنقرة،
- دوافعه الجيوسياسية،
- مجالات التعاون بينهما،
- وكيف يتقاطع ذلك مع تحدي النفوذ الغربي في المنطقة.
أولًا: تركيا بين الأطلسي والشرق.. لعبة التوازن الحاد
تركيا عضو رسمي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنها منذ سنوات تمارس سياسة خارجية أقرب إلى "اللعب على الحبال":
- تصعّد لهجتها ضد أوروبا،
- تدخل في مواجهات ضمنية مع الولايات المتحدة،
- وتقترب أكثر من روسيا، لا حبًا في موسكو، بل رفضًا للوصاية الغربية.
السبب الجوهري هو أن تركيا ترى أن مصالحها الإقليمية – سواء في البحر المتوسط، أو سوريا، أو القوقاز – لا تتحقق ضمن الإطار الغربي التقليدي، الذي غالبًا ما يُضعف هامش حركتها لحساب إسرائيل أو أوروبا أو الأكراد.
ومن هنا، يأتي التحالف مع روسيا كـ ورقة توازن، وردّ على العزلة الغربية بعد الانقلاب الفاشل عام 2016، ومحاولة فرض إرادة أوروبية عليها في ملفات الاقتصاد واللاجئين والسيادة.
ثانيًا: روسيا تبحث عن شقوق في الجدار الأطلسي
روسيا، في المقابل، ترى في تركيا فرصة استراتيجية لاختراق خاصرة الناتو.
صحيح أن تركيا لا تزال رسميًا في الحلف، لكنها:
- اشترت منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400،
- تقيم مشروعات طاقة كبرى مع موسكو (مثل "السيل التركي" لنقل الغاز)،
- وترفض الانضمام للعقوبات الغربية ضد روسيا بعد حرب أوكرانيا، بل زادت من تعاونها الاقتصادي معها.
بوتين يدرك أن إخراج تركيا تمامًا من المدار الغربي صعب، لكنه يسعى إلى إرباك القرار الغربي الموحد، وتقويض وحدة الحلف، عبر تحالفات مرنة لا تُقاس بالولاء بل بتقاطع المصالح.
ثالثًا: المصالح المشتركة في ملفات معقدة
رغم الخلافات الحادة، إلا أن روسيا وتركيا تعلمان أنهما لا تستطيعان تجاوز بعضهما في ملفات استراتيجية، وأبرزها:
1. الطاقة
- روسيا هي المصدر الرئيسي للغاز الطبيعي لتركيا.
- مشروع "تورك ستريم" يعزز مكانة تركيا كمركز عبور للطاقة الروسية إلى أوروبا، ما يمنح أنقرة قوة تفاوضية.
- كما تسعى تركيا لتنويع مصادرها دون خضوع للإملاءات الأوروبية.
2. سوريا
- رغم دعم تركيا للمعارضة ودعم روسيا للأسد، يتفق الطرفان على ضرورة إخراج النفوذ الأمريكي والكردي من شرق الفرات.
- يُديران التوتر على الأرض ضمن تفاهمات غير معلنة تضمن عدم تصادم المصالح تمامًا.
3. القوقاز وآسيا الوسطى
- تركيا تسعى لتوسيع نفوذها الثقافي والاقتصادي في دول "الترك" (كأذربيجان وأوزبكستان).
- وروسيا تقبل بذلك جزئيًا، شرط ألا يكون هذا النفوذ بوابة للغرب، بل بديلاً عنه.
- الحرب في ناغورني كاراباخ كشفت كيف نجحت موسكو وأنقرة في إدارة الصراع وتوزيع المكاسب دون الانفجار.
4. التكنولوجيا والدفاع
- تركيا لم تعد تعتمد كليًا على الصناعات الغربية، وتسعى للتعاون الدفاعي مع روسيا وغيرها.
- هذه الخطوة تثير غضب واشنطن لكنها تُقرّب أنقرة من معسكرات الشرق الصاعد.
رابعًا: مواجهة الهيمنة الغربية… دون خطاب أيديولوجي
اللافت أن التحالف بين موسكو وأنقرة ليس تحالفًا أيديولوجيًا، بل براغماتي بامتياز.
- كلا الطرفين يريد إنهاء تفرد الغرب في تقرير مصير العالم،
- لكنهما لا يسعيان بالضرورة إلى نظام بديل موحد.
- إنها لعبة توازنات، لا اصطفافات نهائية.
تركيا تجد في روسيا شريكًا يُعاملها كقوة إقليمية لا كمجرد تابع، وروسيا تجد في تركيا بابًا لاختراق النظام الدولي من الخاصرة الإسلامية والأوروبية في آنٍ واحد.
الخاتمة:
العلاقة بين روسيا وتركيا هي مرآة لتحوّل أوسع في العالم، حيث تتآكل التحالفات التقليدية، وتُعاد صياغة الجغرافيا السياسية وفق قواعد جديدة.
تحالف الضرورة هذا ليس دائمًا، لكنه يعكس اتجاهًا متصاعدًا:
أن زمن التبعية للغرب يتراجع، ولو ببطء، لصالح علاقات أكثر تعقيدًا، يصوغها منطق المصالح، لا منطق الهيمنة.