احتكار السيطرة الرقمية وسؤال السيادة المؤجلة

مع كل أزمة بين القوى الكبرى، تتعالى الأصوات المطالِبة بإنشاء "إنترنت سيادي" بديل عن الهيمنة الأميركية على الشبكة العالمية. تتكرر الدعوات إلى فصل الشبكات، وإقامة فضاءات رقمية مستقلة، وتحرير البيانات من بوابات وادي السيليكون. لكن رغم كل ما جرى من تقدم تقني وسياسي، لم يظهر إلى الآن إنترنت عالمي بديل.
فما العائق الحقيقي؟ وهل المشكلة في "التكلفة" كما يُروَّج، أم أن هناك بنيةً أعمق تُعيق الانفكاك الثقافي والسياسي عن المركز الرقمي الأميركي؟
1. خرافة "التكلفة" التقنية: هل المال هو العقبة؟
من السهل أن نُحمّل التكلفة مسؤولية فشل المشاريع الرقمية المستقلة. لكن الواقع يُكذّب ذلك. الصين على سبيل المثال، أنفقت مئات المليارات على بناء بنية تحتية رقمية جبارة، وأسست "الإنترنت الصيني" المسوّر، بواجهات بحث ومراسلة ومنصات ترفيه وشراء محلية.
روسيا بدورها طورت مشروع "رونت" RuNet، وقامت بتجارب فصل كاملة عن الشبكة العالمية.
إيران، وحتى كوريا الشمالية، لديهما مشاريع إنترنت داخلية مغلقة.
لكن، لماذا بقيت هذه التجارب محلية؟ لماذا لم تتحول إلى منظومات عابرة للحدود تشكل بدائل عالمية؟
لأن المعضلة ليست مالية، بل في طبيعة الإنترنت ذاته كنظام هيمنة معرفية وهيكل سيطرة ثقافية وليس مجرد شبكة اتصال.
2. الإنترنت كأداة استعمار ناعم
الهيمنة الأميركية لم تبدأ فقط من "غوغل وفيسبوك"، بل من القواعد التي بُني عليها الإنترنت:
- بروتوكولات الاتصال والتحكم (مثل DNS وIP) تدار من جهات أميركية (مثل ICANN).
- المعايير التي تضبط تبادل البيانات، والبرمجيات، والأمن الرقمي، تُقرَّر من مؤسسات أميركية المنهج، أو على الأقل تنشط ضمن دوائرها الثقافية.
أي محاولة لفصل الإنترنت لا تعني فقط تغيير الأجهزة أو الخوادم، بل تعني تفكيك نظام الهيمنة الرمزية الذي يجعلك ترى العالم وتفكر فيه عبر بوابات صُمِّمت ثقافيًا لخدمة نمط الحياة الأميركي.
فهل تمتلك الدول البديلة نموذجًا ثقافيًا رقميًا متماسكًا قادرًا على بناء وعي رقمي جديد؟ لا حتى الآن.
3. الفضاء الرقمي لا يُفصل بالجغرافيا
الخطأ المفاهيمي الأساسي هو التعامل مع الإنترنت كأنه بنية فيزيائية يمكن فصلها مثل خطوط الطاقة أو الكابلات البحرية. لكن الإنترنت بنية رمزية، ثقافية، متشابكة:
- كيف تفصل نفسك عن "الإنترنت العالمي" بينما يعتمد كل تطبيقك المحلي على بروتوكولات قياسية أميركية الصنع؟
- كيف تطور محرك بحث مستقل بينما تضطر لمراعاة لغة الويب التي حددها المركز الأميركي؟
- كيف تُنشئ متجرًا رقميًا دون الاعتماد على شبكات الدفع التي تمر عبر خوادم مؤمركة أو تخضع للعقوبات الغربية؟
أي محاولة للفصل دون إعادة بناء لغة رقمية بديلة تؤدي فقط إلى العزلة، لا الاستقلال.
4. الاستقلال الرقمي يحتاج سردية وهوية
أميركا لا تحتكر التكنولوجيا فقط، بل تحتكر الرمزية.
الإنترنت الأميركي ليس فقط أداة عمل، بل هو ثقافة:
الشفافية، حرية التعبير، الانفتاح، سرعة الوصول، فردانية المستخدم، تسليع البيانات... كلها مفاهيم غُرست في وجدان المستخدمين كجزء من "الحداثة الرقمية".
ولذلك فإن محاولة فصل الإنترنت تحتاج أولًا إلى بناء سردية رقمية مغايرة:
- ما هي حرية التعبير في الإنترنت البديل؟
- هل الرقابة فيه لحماية الهوية أم أداة قمع؟
- هل يُنتج وعيًا تشاركيًا أم يُعيد إنتاج المركزية القومية بشكل مختلف؟
إن لم توجد إجابة واضحة، فالمستخدم سيعود طوعًا إلى الإنترنت الأميركي، حتى لو كره هيمنته.
5. الجبن الجيوسياسي: بين الرفض النظري والاعتماد الواقعي
العديد من الأنظمة السياسية ترفع شعار "السيادة الرقمية"، لكنها في العمق تعتمد على البنية الأميركية:
- تعتمد البنوك على خوادم أميركية.
- تعتمد الجيوش على نظم تحكم تعمل ببرمجيات أميركية أو مفتوحة المصدر مشفّرة من داخل وادي السيليكون.
- تعتمد الجامعات على مكتبات ومجلات رقمية خاضعة لحقوق نشر غربية.
فأين السيادة؟
السيادة الرقمية لا تُصنع بالشعارات، بل بإعادة بناء سلسلة القيمة الرقمية كاملة: من تصميم الشرائح، إلى البرمجيات، إلى المنصات، إلى نظم التشغيل، إلى نظم التبادل. وهذا لم تفعله أي دولة حتى الآن بالكامل.
خاتمة:
لم يُفصل الإنترنت حتى الآن، ليس لأن التكلفة مرتفعة، بل لأن الفكرة نفسها لم تُفهم على حقيقتها. الإنترنت ليس شبكة من الكابلات، بل منظومة رمزية ثقافية واقتصادية وأمنية تُعيد إنتاج المركز الأميركي بشكل ناعم.
الطريق إلى الإنترنت البديل لا يمر عبر حجب غوغل، بل عبر ولادة وعي رقمي مغاير، وهوية سيادية مستقلة، ونموذج حضاري يمتلك الجرأة على صناعة البديل لا تقليد الأصل.