
في لحظات ما بعد الحرب، حين تتساقط الأنقاض، ويعود الصمت المؤقت، تبدأ المعارك الحقيقية:
معركة الوعي، ومعركة إعادة التموضع، ومعركة الردع القادم.
فالمقاومة في غزة لم تُهزم، لكنها خرجت من حرب مدمّرة، وعلى طاولتها ثلاثة تحديات كبرى: إعادة البناء، تثبيت الردع، واستعادة زمام المبادرة.
1. من استنزاف إلى صمود: قراءة لما حدث
في الحرب الأخيرة، تحوّلت غزة إلى ساحة اختبار للنيران متعددة الاتجاهات.
ورغم تفوق إسرائيل الجوي والتكنولوجي، أثبتت المقاومة الآتي:
- قدرتها على الرد المتزامن مع الجبهات الإقليمية، ضمن معادلة "وحدة الساحات".
- تفعيل منظومات صاروخية، بعضها بدقة أعلى ومدايات أبعد.
- استمرار عمل خلاياها العسكرية رغم الضربات المركّزة على مقارها القيادية.
لكن المقاومة دفعت الثمن: شهداء، دمار واسع، إرهاق شعبي، وشبه حصار سياسي.
ومع ذلك، فإن بقاءها فاعلة رغم كل ذلك، هو بحد ذاته انتصار في ميزان الاستراتيجيا، لا في عدّ الخسائر.
2. المقاومة بين الردع والتفاوض: معادلة جديدة تتشكل
الحرب الأخيرة أفرزت ملامح مرحلة مختلفة:
- لم يعد ممكنًا لإسرائيل فرض تهدئة بشروطها فقط.
- لم تعد الفصائل تتحرك بمعزل عن الإيقاع الإقليمي (إيران، حزب الله، اليمن...).
- كما لم تعد القوى الكبرى (أميركا، أوروبا) قادرة على تجاهل وزن غزة في أي حسابات أمنية مستقبلية.
بكلمة أخرى:
غزة تحوّلت من "منطقة خارجة عن السيطرة" إلى "عامل لا يمكن تجاوزه" في معادلة الردع.
وهذا مكسب نوعي، وإن لم يُترجم بعد إلى مكاسب سياسية أو رفعٍ للحصار.
3. ما بعد الضربة: التحديات الكبرى للمقاومة
أ) إعادة التموضع
المقاومة بحاجة إلى مراجعة:
- قواعد الاشتباك.
- خطوط الإمداد.
- مركزية القرار العسكري.
فالحرب كشفت حجم الاختراقات، والتغيرات في أساليب العدو، وضرورة التحديث.
ب) تعبئة الجبهة الداخلية
الحاضنة الشعبية صلبة، لكنها منهَكة.
الدمار، الفقر، العزلة... كل ذلك يُضعف الجبهة.
والمقاومة التي تريد الاستمرار، تحتاج إلى خطاب جامع، يعيد الثقة والأمل، لا مجرد الشعارات.
ج) تفكيك العزلة السياسية
لا بد من كسر الطوق العربي والدولي.
وذلك يكون من خلال:
- بناء رواية إعلامية تُظهر حجم العدوان.
- استثمار التضامن الشعبي الغربي.
- وتجنب الانزلاق في الاستقطابات الإقليمية التي تُستعمل لتجريم المقاومة.
4. المقاومة: من ورقة ضغط إلى قوة ردع
بعد هذه الحرب، لم تعد المقاومة في غزة مجرد "ورقة ضغط" بيد إيران أو الفصائل.
بل باتت جزءًا من معادلة ردع إقليمية، تتقاطع مع طهران، وبيروت، وصنعاء، لكنها أيضًا تحافظ على هامش قرارها المحلي.
ولأول مرة، تُضطر إسرائيل إلى التفكير مليًّا قبل كل عملية اغتيال أو توغل بري، خشية الانفجار الشامل.
هذا هو الردع الحقيقي:
أن تُجبر العدو على الحساب... لا أن تنتظر منه الاعتداء لترد.
5. مستقبل غزة: بين المقاومة والمبادرة
رغم الصمود، فإن التحدي الأكبر للمقاومة ليس في مواصلة البقاء، بل في صناعة المبادرة السياسية على أساس المقاومة.
هل يمكن لغزة أن تنتقل من كيان محاصر إلى رمز تحرر عالمي؟
هل يمكن للفصائل أن توحد خطابها على مشروع وطني تحرري، لا فصائلي؟
هل يمكن لحالة المقاومة أن تنتج رؤية اجتماعية–سياسية، تُعيد بناء الإنسان المقاوم، لا مجرد المقاتل؟
هذه الأسئلة هي معارك المرحلة القادمة.