النقد الاجتماعي

التخطيط العمراني كأداة لإعادة تشكيل الهوية الثقافية والسياسية

في العديد من المجتمعات، يُعتبر العمران أكثر من مجرد مبانٍ وشوارع؛ إنه تجسيد حي للذاكرة الجماعية، والهوية الثقافية، والتاريخ المشترك. ومع ذلك، شهدت بعض الدول عمليات هدم منهجية لأحياء تاريخية وثقافية تمتد جذورها لقرون، بهدف بناء مشاريع تجارية أو سياحية حديثة. هذه التحولات العمرانية لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تحمل في طياتها أهدافًا سياسية وثقافية عميقة. الهدم كأداة لإعادة تشكيل الهوية يُستخدم الهدم المنظم للأحياء التاريخية كوسيلة لإ…

الصورة التي تقول أكثر من ألف مشهد

في زمنٍ تتناوب فيه الشاشات على ملء أبصارنا، تظلّ الصورة الواحدة قادرة على أن تنفذ إلى الداخل، فتتحدث بصمتها أكثر مما يقدر عليه أي فيديو صاخب. لعلّ سرّها أنها لا تسرد الحدث، بل تُجمّده عند ذروة معناه، فتجعلنا نرى ما لا يمكن أن نراه في حركةٍ متواصلة. الصورة هي لحظة الوعي المقطّرة، اللحظة التي توقفت فيها الحياة لتقول كل شيء دفعة واحدة. 1. زمن متجمّد لا يشتّت الانتباه في الفيديو، تتوالى اللقطات بسرعة تجعلنا نلاحق الحدث بدل أن نتأمله. أما الصورة فت…

هنالك كانت البداية.. صداقات تبنى بالكلمات

كيف تغيّر جوهر التواصل الإنساني في زمن الصورة منذ بدايات الإنترنت، حين كانت غرف المحادثة العامة نوافذ صغيرة على العالم، كان الإنسان يعيش تجربة جديدة تمامًا: أن يتحدث مع من لا يعرفه، أن يصادق من لا يراه، وأن يبني علاقة خالصة بالكلمة وحدها. لم تكن الصورة مهمة، ولا الخلفية الاجتماعية، ولا المظهر أو المال. كان الحوار وحده هو الجسر، وكان الصدق في التعبير هو ما يمنح العلاقة معناها. كانت تلك الصداقات الرقمية الأولى تشبه الحلم؛ مساحة من الحرية والخيا…

فنّ الحياة.. إيقاع بطيء في زمن السرعة

ليست البساطة انسحابًا من العالم، بل طريقة مختلفة في رؤيته. هي تمرّد هادئ على ضجيج السرعة، ومصالحة عميقة مع النفس التي أرهقها الركض وراء “المزيد”. في زمنٍ صارت فيه القيمة تُقاس بالإنتاج، والنجاح بالإنهاك، يصبح البطء ضربًا من الشجاعة، والبساطة موقفًا وجوديًا لا أسلوبًا جماليًا فحسب. الإنسان بين الزخم والاختزال امتلأت حياتنا بأشياء كثيرة، لكننا أصبحنا أكثر فراغًا من أي وقت مضى. كل شاشة تُنادينا، وكل إشعار يذكّرنا بأننا متأخرون عن سباق لا نعرف …

هندسة الذوق: اقتصاد الرمز: كيف تحوّل السوق إلى صانع للهوية

حين يُستبدل الطعم بالرمز في السوق الحديثة، لم يعُد البيع مقصورًا على الأشياء، بل على المعاني. لم يعُد المنتج يُسوّق بوصفه سلعةً، بل بوصفه رمزًا لمعنى أكبر: الانتماء، الرقي، الحداثة، أو حتى «الوعي». لقد انتقل الاقتصاد من مرحلة بيع الحاجة إلى مرحلة بيع الهوية، ومن تلبية الرغبة إلى صناعة الرغبة نفسها. صار الإنسان لا يشتري القهوة، بل يشتري «من يكون» حين يشربها. الرمز كعملة جديدة في هذا الاقتصاد الرمزي، لم تعُد القيمة تُحدَّد بالمادة، بل بالدلالة.…

هندسة الذوق: الإنسان عديم الطعم: حين تذوب الذات في النكهات المصنّعة

في نهاية رحلة طويلة من ترويض الحواس وتطبيع الأذواق، يقف الإنسان المعاصر أمام نفسه ليكتشف أنه فقد آخر ما تبقّى له من حريته: القدرة على التذوّق . لم تعد الحاسة وسيلة معرفة بالعالم، بل وسيلة استهلاك له. لم تعد اللذة تجربة، بل استجابة مشروطة. وهكذا وُلد إنسان جديد بلا طعم، بلا ذائقة أصيلة، بلا حسّ يتجاوز ما يُقدَّم له جاهزًا في عبوة، أو إعلان، أو قائمة توصيات رقمية. إنه الإنسان الذي لا يعرف ما يحب، بل يعرف فقط ما يُقال له إن عليه أن يحبّه. نكهات ب…

هندسة الذوق: الحواس الخاضعة: كيف تُعاد برمجة الذوق بوصفه أداة طاعة ناعمة

لم تعد الحواس ملكًا للإنسان كما كانت يومًا. لقد تسللت السلطة الحديثة إلى ما كان يُظنّ أنه أعمق مناطق الحرية: الذوق، والشم، واللمس، والإحساس بالجمال. فالمسألة لم تعد ذوقًا يُصاغ من التجربة والاختيار، بل ذوقًا يُبرمج مسبقًا ويُحقن في وعي الجماعة كما تُحقن البرمجيات في الأجهزة. وهكذا، تحوّل الذوق إلى أداة ضبط ناعمة، تصوغ بها المنظومة الاقتصادية والاجتماعية سلوك الإنسان من دون أن ترفع صوتها. الحواس كمنطقة السلطة الجديدة في الماضي، كانت السلطة تُم…

اقتصاد الوهم: وهم النمو الاقتصادي: ازدهار في الأرقام وركود في الواقع

يُقال إن الاقتصاد العالمي “ينمو” كل عام، وإن الناتج المحلي في ازدياد، وإن الأسواق تزدهر. لكن هل يشعر الإنسان العادي فعلًا بهذا الازدهار؟ خلف لغة الأرقام والتقارير الرسمية، يتوارى واقع مختلف: الفقراء يزدادون فقرًا، والطبقة الوسطى تنكمش، والديون تتراكم في جيوب الدول والأفراد معًا. إن ما يسمّى “النمو الاقتصادي” في الخطاب الرسمي ليس سوى وهم جماعي يُسوَّق للشعوب لتبرير استمرار النظام المالي القائم على التفاوت والديون. الناتج المحلي... المؤشر الذي…

اقتصاد الوهم: وهم الثراء: حين يصبح الصرف أعلى من الدخل

ليست مظاهر الرفاه التي نراها في الشوارع أو على الشاشات دليلًا على الثراء الحقيقي. فالعالم المعاصر يعيش مفارقة اقتصادية غريبة: مجتمعات تبدو ثرية وهي غارقة في الديون، وأخرى تبدو متواضعة لكنها أكثر استقرارًا ماليًا. ما عادت المظاهر مرآة للواقع الاقتصادي، بل أصبحت أداة لإخفائه؛ إذ أصبح "العيش فوق الدخل" ثقافة عالمية أكثر منه أزمة مالية فردية. الرفاه المصنوع: استهلاك أكبر من القدرة تتغذى المجتمعات الغربية على فكرة "القدرة الشرائية غ…

حين يرقص الجسد في غياب المتفرج: قراءة في زمن الوجود الرقمي

في المدن الحديثة، لم يعد الرقص في الشوارع فعلاً فنيًا أو احتفالًا جماعيًا، بل تحوّل إلى طقس يومي يمارسه الأفراد أمام كاميراتهم لا أمام الناس. الفتيات والفتيان يرقصون في الساحات، على الأرصفة، وفي الممرات العامة، بلا التفات إلى المارة أو الحشود من حولهم. يبدو المشهد عفويًا، لكنه في عمقه إعلان عن تحوّل في طبيعة الوجود الإنساني ذاته : من التفاعل الاجتماعي الواقعي إلى الأداء الرقمي المعزول. لم يعد الهدف أن تُرى في المكان، بل أن تُسجَّل في الذاكرة ال…

من دموع الأبيض والأسود إلى ألوان الفرح: حكاية السينما الهندية

السينما الهندية ليست مجرد صناعةٍ ضخمة ولا تقليدٍ فنيٍّ عابر، بل هي ذاكرةُ وجدانٍ شعبيٍّ بأكمله. على مدى قرنٍ من الزمن، تغيّر شكل الشاشة ومضمونها، لكن بقي فيها شيءٌ لا يتبدّل: الشغف بالحياة. من أول لقطة بالأبيض والأسود إلى آخر مشهد مفعمٍ بالألوان والمؤثرات، ظلّت السينما في الهند تروي القصة ذاتها — قصة الإنسان حين يحلم ويغني ويبكي في آنٍ واحد . المرحلة الأولى: زمن العاطفة والدموع (من عشرينيات إلى خمسينيات القرن الماضي) في بداياتها، كانت السينما…

الاقتصاد النفسي وثقافة القطيع: لماذا ندفع ما يفوق قيمة ما نستهلك؟

لا يشتري الإنسان ما يحتاجه دائمًا، بل ما يظن أنه سيمنحه صورة أفضل عن ذاته في أعين الآخرين. هذا هو جوهر "الاقتصاد النفسي" الذي يحكم استهلاكنا اليومي أكثر مما تحكمه المعايير الاقتصادية العقلانية. من فنجان القهوة الباهظ إلى الهاتف الذكي الفاخر، يختبئ خلف قراراتنا الاستهلاكية دافع نفسي غير معلن: الرغبة في الانتماء، وإثبات الذات، والخوف من الخروج عن السرب. ما هو الاقتصاد النفسي؟ الاقتصاد النفسي لا يتعامل مع القيمة المادية للسلعة بقدر ما ي…

الرياضة كصناعة: بين الأداء البشري والاستغلال التجاري والجسدي

الرياضة اليوم لم تعد مجرد نشاط بدني أو منافسة على الإنجازات، بل أصبحت صناعة ضخمة تعتمد على تحويل الأجساد والمهارات البشرية إلى أدوات للربح والمتعة الجماهيرية . هذا الواقع يطرح تساؤلات جوهرية حول الحدود بين الاحترافية الرياضية، الاستغلال النفسي والجسدي للرياضيين، وخاصة النساء، والتحول الكامل للرياضة إلى سلعة استثمارية . 1. الرياضي كأصل تجاري وخاضع للضغط اللاعب الحديث لم يعد مجرد مشارك، بل منتج استثماري : عقود الرعاية، حقوق البث، وتسويق الأ…

الوهم والواقع: كيف نعيش بين الحلم والحقيقة؟

يعيش الإنسان منذ أقدم العصور بين عالمين متوازيين: الواقع الملموس والحقيقة الموضوعية من جهة، وبين الأحلام والأوهام الداخلية التي يصنعها ذهنه لتخفيف الضغوط وتحقيق الراحة النفسية من جهة أخرى. هذه الثنائية ليست مجرد حالة شعورية، بل تشكّل محور تجربتنا الوجودية: كيف يمكن للإنسان أن يوازن بين ما هو حقيقي وما هو وهم، وكيف يمكن أن تؤثر هذه التوازنات على قراراته، علاقاته، ومفهومه للذات؟ الوهم ليس دائمًا سلبيًا، لكنه يصبح خطرًا عندما يسيطر على إدراكنا، وي…

السعادة والحرية: هل يمكن أن تكون متوافقة؟

لطالما شكّل البحث عن السعادة والحرية محورًا أساسيًا للفلسفة الإنسانية. فالسعادة، بوصفها حالة شعورية وتجربة داخلية، تبدو هدفًا طبيعيًا لكل فرد، بينما الحرية، بصفتها قدرة الإنسان على اختيار مساره وممارسة إرادته، تُعد شرطًا أساسيًا لأي وجود معقول. لكن السؤال المحوري هو: هل يمكن للإنسان أن يجمع بين الاثنين؟ أم أن السعي وراء أحدهما قد يقود إلى فقدان الآخر؟ الفلسفة الغربية والشرقية على حد سواء تناولت هذا التوتر، لكن التحليل المعاصر يوضح أن العلاقة بي…

التعليم كأداة للضبط الاجتماعي لا للمعرفة

في المجتمعات العربية، لم يعد التعليم مجرد وسيلة لنقل المعرفة أو تطوير الفكر النقدي، بل أصبح أداة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي القائم. بدل أن يعلّم الفرد كيف يفكر ويبدع، يُعلّمه كيف يطيع، كيف يلتزم بالقواعد دون مساءلة، وكيف يندمج في نسق اجتماعي محدد. هذا التحول لا يحدث بالصدفة، بل هو نتيجة مشروع متكامل يستخدم المناهج والاختبارات والطقوس المدرسية لإنتاج مواطن "مطيع" أكثر من كونه مفكرًا حرًا. من التعليم كمعرفة إلى التعليم كضبط …

ثقافة البحث عن السعادة: سلعة جديدة في سوق الوهم

لم يعد الحديث عن السعادة مسألة شخصية أو فلسفية، بل صار خطابًا عامًا يملأ الكتب والبرامج والدورات التدريبية. في كل مكان يلاحقك شعار: "كن سعيدًا"، "ابتسم للحياة"، "السعادة قرارك". لكن خلف هذه الشعارات يختبئ مشروع تجاري وثقافي ضخم حوّل السعادة إلى سلعة تباع وتُشترى، بدل أن تكون حالة إنسانية داخلية مرتبطة بالمعنى والكرامة. بهذا التحول، صار الإنسان المعاصر مطاردًا لا لشيء إلا ليكون "سعيدًا"، وكأن السعادة غاية و…

الزمن المقطّع: أثر التكنولوجيا على إدراكنا للوقت والعلاقات

لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة تغيّر طريقة عملنا أو تواصلنا، بل أصبحت قوة عميقة تعيد تشكيل إحساسنا بالزمن ذاته. فالوقت الذي كان يُنظر إليه كمسار متصل من الأحداث والمعاني، تحوّل بفعل الأجهزة الذكية والتطبيقات الرقمية إلى لحظات مقطعة، سريعة، ومتشظية. صار اليوم يمرّ كسلسلة من إشعارات ورسائل ومقاطع قصيرة، تسرق التركيز وتفتت الإحساس بالاستمرارية. بهذا المعنى، لم تعد المسألة تقنية بحتة، بل تحوّل ثقافي عميق يمسّ الوعي الفردي والبنية الاجتماعية. من الزمن…

تفكيك مفهوم التنمية البشرية في العالم العربي

خلال العقدين الأخيرين، غزت عبارة "التنمية البشرية" الفضاء العربي حتى تحولت إلى لازمة في الإعلام والمؤسسات التعليمية والمراكز التدريبية. تُقدَّم للناس بوصفها وصفة سحرية للنهوض، ووسيلة لبناء "إنسان جديد" قادر على النجاح والتفوق. لكن خلف هذا البريق تكمن إشكالية أعمق: هل التنمية البشرية مشروع فعلي لتحرير الإنسان وتطوير قدراته، أم أنها مجرد خطاب لتسكين الأزمات الاجتماعية وتطبيع الفشل الجماعي عبر تحميل الأفراد وحدهم مسؤولية مصيرهم؟…

تحميل المزيد
لم يتم العثور على أي نتائج