
لكن الحقيقة أن الإنسان المنتج، في كثير من المجتمعات، لا يملك شيئًا سوى أدواته المتواضعة… أما مفاتيح السوق، فقد سُحبت منه منذ زمن.
لقد صار من ينتج لا يتحكم، ومن يزرع لا يقرر، ومن يكدح لا يرى ثمار جهده، لأن الاقتصاد قد أُغلق على فئة محددة تتحكم بالمنافذ كما تتحكم بالأرباح.
إنه شكل جديد من السيطرة، لا يُمارَس بالسلاح أو الاستعمار الصريح، بل عبر شبكات التوزيع والتوريد والتسعير… بآليات تبدو طبيعية، وهي أبعد ما تكون عن الحرية.
حين لا تعني حرية السوق شيئًا لمن لا يملك مفاتيحها
في ظاهر الأمر، تبدو السلع متاحة، والمجالات مفتوحة، والإنتاج مكافأ بالربح.
لكن الواقع في أسواق المواد الخام والزراعة والإنتاج الغذائي يروي قصة أخرى تمامًا:
فأنت لا تملك حق البيع، ولا تجد من يشتري، ولا تدخل سوقًا… ما لم تمر عبر شبكة اقتصادية مغلقة تتحكم في كل شيء:
- من يُزرع له،
- من يُسمَح له بالبيع،
- بأي سعر،
- وتحت أي معايير تُصاغ خصيصًا لإقصاء من ليس جزءًا من المنظومة.
وهكذا يتحول السوق، الذي يُفترض أن يكون ساحة تنافس، إلى قلعة محصّنة لا يُفتح بابها إلا لمن وقّع الولاء الاقتصادي لشركات تتحكم من خلف الستار.
الإنتاج بلا سيادة: عبودية من نوع جديد
قد تملك مزرعة دواجن، أو تزرع محصولًا نادرًا، أو تنتج مواد خامًا يحتاجها السوق… لكنك تكتشف أن لا أحد يشتري منك، إلا عبر شركة واحدة أو وسيط معتمد بعينه.
وإذا حاولت البيع خارج هذا المسار، قيل لك: لا مواصفات، لا جودة، لا ثقة، لا منفذ.
وهكذا، لا تُقاس قيمة المنتج بجودته أو جدواه، بل بهويته التجارية: هل هو جزء من المنظومة المحتكرة أم لا؟
في النهاية، لا يعود المنتج حرًّا في بيعه، بل يصبح عاملًا باليومية في اقتصاد لا يرحم، يتقاضى الفُتات، بينما تتضاعف أرباح من يملكون التوزيع والتسويق والتسعير.
الشركات الكبرى: إمبراطوريات خفيّة تُدير الاقتصاد من الخلف
ما يحدث ليس صدفة، بل جزء من بنية اقتصادية عالمية، تُدار فيها الموارد لا لصالح من يُنتجها، بل لصالح من يُوزّعها ويُصدرها ويُسوّقها.
شركات عملاقة تتحكم بقطاعات كاملة — من المطاط، القهوة، الشاي، الكاكاو، الزيوت، الأعلاف، الدواجن — دون أن تزرع أو تحصد أو تربي… بل فقط لأنها تسيطر على:
- سلاسل الإمداد،
- عقود الشراء،
- أسواق الجملة،
- رفوف المتاجر،
- و"المعايير العالمية" التي تخنق الصغار وتُقصي المستقلين.
إنه احتكار لا يُمارَس بالعلن، بل تحت شعارات الكفاءة والتحديث والانفتاح، بينما هو في حقيقته حصار ممنهج لحرية المنتج المحلي.
السوق الحر ليس حرًّا إلا على من يملكه
ما يُقدَّم للناس على أنه "اقتصاد حر" هو في الحقيقة مسرحية محكمة الأدوار،
حيث المنتج الحقيقي لا يُمنَح سوى دور المُنفِّذ الصامت، بينما القرارات تُصاغ في مراكز بعيدة، لا علاقة لها بالكدح ولا بالتراب ولا بالعرق.
تُباع القهوة التي تُزرع في الحقول الفقيرة في علب أنيقة بأسعار خيالية في المقاهي العالمية… لكن من زرعها بالكاد يحصل على ما يسد رمقه.
تُستخرج المواد الخام من أرض الفلاحين، ثم يُمنعون من بيعها لمن يشاؤون، لأن السوق "مرتبط" بشركات تُدير اللعبة من أعلى.
لا منافذ مفتوحة… إلا لمن خضع للمنظومة
إذا فكّرت شركة ناشئة أو منتج مستقل في دخول هذا السوق، اصطدم مباشرة بعوائق صلبة:
- لا منفذ للبيع،
- لا قبول في شبكات التوزيع،
- لا اعتماد لدى التجار الكبار،
- لا قدرة على المنافسة أمام أسعار يُحدّدها الكبار لخنق الصغار.
وحين يُقصى هؤلاء من السوق، لا يقال إنها مؤامرة، بل يُلامون على فشلهم، وكأن المشكلة فيهم… لا في البنية التي لا تسمح لهم بالوجود أصلًا.
خاتمة
ليست المشكلة أن الشركات الكبرى تُحقق أرباحًا… بل أنها تمنع غيرها من الحياة.
ولا الخطورة في وفرة المنتجات، بل في أن من يُنتجها يُقصى من التحكم فيها.
هذا شكل جديد من الاستعباد الاقتصادي، لا يُرى بالعين، ولا يُعلَن في البيانات الرسمية، لكنه يحول الإنسان المنتج إلى مجرد ترس بلا قرار، يكدح ليأكل… بينما يملك غيره ثمار جهده.
ما لم يُكسر هذا النمط من السيطرة، ستبقى الشعوب تعمل… لا لتنهض، بل لتخدم اقتصادًا لا تملك منه شيئًا.