/* لإخفاء احرف من عناوين الصفحات */

غلاء الأسعار: حين تُستخدم الحاجة سلاحًا للسيطرة

أن غلاء الأسعار في كثير من الحالات ليس نتيجة طبيعية، بل أداة مُتعمّدة لإخضاع الشعوب وإعادة تشكيل الوعي الاقتصادي والاجتماعي.

لم يعد غلاء الأسعار مجرّد ظاهرة اقتصادية ناتجة عن العرض والطلب، كما تدّعي الأدبيات التقليدية، بل أصبح في كثير من السياقات المعاصرة أداة استراتيجية لإعادة تشكيل المجتمعات.
إنه ليس نتيجة عجز… بل في حالات كثيرة، خيار سياسي واقتصادي ممنهج.
في هذا العالم، يُدار الغلاء لا ليُرفَع، بل ليُستثمَر: لإخضاع الإنسان، لإضعاف طبقته الوسطى، لحرمانه من وقت التفكير، ولتدجينه اقتصاديًا في معادلة لا يملك فيها إلا النجاة.


الغلاء كأداة ضبط اجتماعي

حين تشتعل الأسعار فجأة، ثم تبقى على حالها دون معالجة،
لا تكون المسألة عجزًا في الموارد أو خللًا طارئًا، بل سياسة غير مُعلَنة.
ذلك أن المواطن المثقل بالديون، والمطارَد بالمصاريف، والمنهَك من هموم الغد… لا وقت لديه للاعتراض، ولا طاقة للتفكير.

هكذا يُحكم القبض على المجتمع: لا عبر القمع، بل عبر الإنهاك.

وهذا هو الفرق بين الغلاء العرضي، وبين الغلاء المُدار: الذي يُترَك متعمَّدًا ليؤدي وظيفة سياسية طويلة الأمد.


اقتصاد يُفقر ليستثمر الفقر

في أنظمة اقتصادية كثيرة، يُستخدم التضخم (ارتفاع الأسعار) بطريقة مزدوجة:

  • من جهة، يُرهق المواطن العادي ويقلّل من قوته الشرائية.
  • ومن جهة أخرى، يُصبّ في مصلحة نخب مالية تستثمر في اضطراب السوق، وتراكم الأرباح من التلاعب بالأسعار والمضاربة.

وهكذا، يُعاد توزيع الثروة من الأسفل إلى الأعلى، عبر أدوات خفيّة:
ليس بالضرائب فقط، بل بارتفاع الأسعار دون سقف، ودون رقابة، ودون مساءلة.


لماذا لا تُعالج موجات الغلاء؟

لأن هناك من يستفيد منها.
فحين يُقال للناس إن ارتفاع الأسعار ناتج عن:

  • الحرب،
  • سعر الصرف،
  • الأزمات العالمية،
  • قلة الإنتاج…

يُغفل دائمًا أن السياسات المحلية نفسها تُسهِم في تكريس الغلاء، بل أحيانًا في إدارته كأداة لضرب الاستقرار الطبقي والاجتماعي.

ومن أبرز هذه السياسات:

  • رفع الدعم دون بديل حقيقي.
  • فرض ضرائب غير مباشرة على السلع الأساسية.
  • تحرير السوق بشكل غير منضبط.
  • طباعة النقود دون إنتاج فعلي.
  • ترك الأسواق للتجار الكبار والمضاربين دون رقيب.

من يدفع الثمن فعلًا؟

  • الموظف الذي يتقاضى راتبًا ثابتًا ويتآكل شهريًا.
  • رب الأسرة الذي يُقارن بين طعام اليوم وفاتورة المدرسة.
  • الشاب الذي يفقد حلمه في الزواج أو السكن.
  • المريض الذي يختار بين العلاج أو الطعام.

لكن الغلاء لا يُعد مشكلة كبرى… ما دام هؤلاء لا يملكون وسائل التأثير،
أما حين يتأثر أصحاب النفوذ، تُتخذ القرارات بسرعة البرق.


الغلاء وتفريغ الإنسان من ذاته

الإنسان الغارق في فواتيره،
المستهلك لما تبقى من قوته الذهنية في ملاحقة الأسعار،
المحاصر بخوف الغد…
هو إنسان منزوع التركيز، هش الإرادة، محدود الطموح.
وهذا تمامًا ما يُريده النظام الاقتصادي النيوليبرالي:
مستهلك خائف… لا مواطن حر.


الخاتمة

غلاء الأسعار ليس دائمًا قضاءً وقدرًا، ولا نتيجة بريئة لقوانين السوق،
بل في كثير من الحالات، أداة مُصمّمة بعناية لإعادة تشكيل المجتمع على نحو يُضعف مقاومته، ويُعزز تبعيته، ويفرّغه من تطلّعاته.

إن المعركة الحقيقية ليست فقط في كبح الغلاء، بل في تفكيك بنيته المخفية، وفضح من يُديره ويستثمر فيه،
حتى لا يبقى الإنسان رهينةً لحاجة مصطنعة، يُقال له إنها طبيعية… بينما هي قرار سياسي خفي.

أحدث أقدم