
هذا الثبات، في زمن الانسياب والانحناء، هو شكل نادر من أشكال النجاح.
نجاح لا يُصفق له الجمهور، ولا يمنح صاحبه أوسمة أو متابعين، لكنه يُبقي الإنسان واقفًا حين تسقط الأقنعة من حوله، ويمنحه شعورًا داخليًا بالقيمة لا يُشترى.
مبادئ للبيع؟
لقد أُعيد تشكيل العالم الحديث بطريقة تجعل الإنسان يرى قيمه كعقبة في طريق تقدمه.
كأن الصدق بات غباءً، والأمانة سذاجة، والوفاء جمودًا، والمبدأ تطرّفًا.
وفي مثل هذا الجو، يصبح البقاء متمسكًا بالمبدأ قرارًا مكلفًا، ليس لأنه خاطئ، بل لأنه غير مربح.
هكذا يضعف الناس قليلًا قليلًا... لا لأنهم لا يعرفون ما هو الحق، بل لأنهم تعِبوا من دفع ثمنه.
النجاح في الثبات لا في الانتصار
النجاح الحقيقي في المبادئ لا يعني أنك ربحت المعركة، بل أنك لم تتخلَّ عن المعنى وأنت في قلب الخسارات.
النجاح أن تظلّ نزيهًا حتى عندما يُكافأ الفساد. أن تظلّ وفيًا لقيمك في زمن يتغيّر فيه كل شيء. أن تقول "لا" حين يكون الجميع يهلّلون لـ"نعم".
إن من يستطيع اليوم أن يبقى وفيًا لمبدأه — دون أن يتعصّب، ودون أن يُساير — يحقق نوعًا نادرًا من الانتصار: انتصار على القابلية للتنازل، وعلى غواية التكيّف المطلق.
الذين لا يتلوّنون
في زمن "المرونة الزائدة"، أصبحت القدرة على التلوّن تُقدَّم كذكاء اجتماعي، وكأن المطلوب من الإنسان أن يُعدّل قِيمه حسب السياق والمصلحة.
لكن الحقيقة أن أعظم الأشخاص أثرًا هم أولئك الذين عرفوا ما يؤمنون به، ولم يُبدّلوه حين تغيرت الظروف، بل ظلوا أمناء على جوهرهم، مهما كلّفهم ذلك.
الثبات لا يعني الجمود، بل هو أن تعرف متى تُراجع موقفك ومتى تتمسك به، أن تميّز بين التكيّف والتنازل.
الثبات لا يصنع ضجيجًا... لكنه يبني حضارات
الذين بنوا مجتمعات حرة، أو حركوا التاريخ، أو أنقذوا أجيالًا، لم يكونوا عباقرة في المسايرة، بل كانوا أناسًا بسطاء، تمسكوا بمبدأ رغم وحدتهم، ودفعوا ثمنه وهم يعلمون أن المدى بعيد، وأن النتائج لا تُرى فورًا.
خاتمة: المبدأ ليس عبئًا بل بوصلة
من ينجح في حفظ مبادئه، ينجح في حفظ نفسه من التآكل الداخلي.
ولعل أقسى أشكال الفشل أن يبلغ الإنسان أعلى مراتب السلطة أو الشهرة، لكنه في الطريق فقد نفسه، وتنازل عن كل ما كان يؤمن به ذات يوم.
بينما يظل الذي يتمسك بقيمه، ولو لم يُصفّق له أحد، أقرب للنجاح الحقيقي: لأنه لم يُشوّه ليصل.