
لكن الحقيقة الأعمق، أن العطاء — حين ينبع من وعي ونضج — هو أعلى مراتب التمكّن الإنساني.
العطاء ليس ضعفًا، ولا تبعية، بل شكل راقٍ من السيطرة على الذات، ودليل على امتلاء لا يحتاج إلى إثبات.
العطاء لا يصدر عن نقص
غالبًا ما يُفهم العطاء فهمًا خاطئًا: كأنه تصرف دفاعي لتثبيت الذات أو شراء القبول.
لكن العطاء الحقيقي لا يصدر عن احتياج، بل عن غنى داخلي.
أن تعطي وأنت لست مكسورًا، أن تمنح وقتك أو علمك أو حبك دون انتظار مكافأة… هذا فعل نادر في عصر المعادلات.
فالنجاح في العطاء هو أن تمنح دون أن تمحو ذاتك، وأن تزرع دون أن تعدّ الحصاد.
من يعطي… لا يُستَعبد
من أعظم مفارقات الحياة أن الذين يُتقنون العطاء، يصعب ابتزازهم عاطفيًا أو فكريًا.
لأنهم لا يعيشون بمنطق "ماذا سأحصل؟"، بل بمنطق "ماذا أستطيع أن أُضيف؟".
ومن عاش بهذه الروح، تحرر من القلق، من المنافسة المحمومة، من الشعور الدائم بالنقص.
الذي يُعطي بثبات، هو شخص امتلك نفسه، لا ينتظر تعريفه من الآخرين.
العطاء ليس ماليًا فقط
في مجتمع يربط العطاء بالمال، ننسى أن أرقى أشكاله لا تُشترى:
- أن تعطي من وقتك لشخص يحتاجك.
- أن تُصغي بصدق لمن لا صوت له.
- أن تساند أحدهم دون أن يعلم أحد.
- أن تمنح معرفة، أو ابتسامة، أو دعاء، أو فكرة… ثم تمضي.
هذه العطاءات، التي لا تُرى ولا تُقاس، تبني في النفس إحساسًا بالمعنى، وتكسر عزلة الإنسان الحديث.
العطاء والكرامة: توازن لا تنازل
العطاء لا يعني أن تُهدر نفسك، أو تتحول إلى أداة لإرضاء الآخرين.
بل هو فعل ناضج يصدر عن فهم الحدود، وعن تقدير النفس أولًا.
من يعطي دون أن يعرف متى يتوقف، يُستنزف.
أما من يعطي عن إدراك، فيُصبح فعله حرًّا، محترِمًا للآخر ولذاته في آن.
خاتمة: العطاء شكل من أشكال السيادة
أن تعطي وأنت قادر على الأخذ… تلك سيادة داخلية.
وأن تظل قادرًا على العطاء في عالم يعلّمك الأنانية… هذا هو النجاح الذي لا ينهار مع الأسواق، ولا يُنتزع منك بقرار.
العطاء ليس ضعفًا ولا ديكورًا أخلاقيًا.
بل هو من أصفى تعبيرات القوة.
ومن بلغ هذه المرحلة، بلغ واحدًا من أرقى وجوه النجاح.