
نحن لا نعيش فقط عصر الذكاء الاصطناعي، بل عصر الخوارزميات التي تفكر بدلاً منا، وتُقنعنا بأننا أحرار.
الخوارزميات: الحاكم غير المُنتخب
في منصات التواصل ومحركات البحث وتطبيقات الأخبار، لا تُعرض علينا المعلومات باعتبارها موجودة، بل تُنتقى بناءً على خوارزميات تضع "ما نحب" أمامنا باستمرار.
لكن هذا "الحب" مصطنع. نحن نُعطى جرعات من التأكيد لما نعتقده، ويُحجب عنّا ما يناقضه، فنعيش في فقاعة مغلقة تعيد إنتاج قناعاتنا.
بهذا، يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة حيادية إلى مهندس للوعي، يُغذي التطرف أو السطحية أو الهروب، حسب ما يخدم اقتصاد المنصة أو السياسة التي تمولها.
من المعلومة إلى الإقناع: كيف يُصنع الرأي العام؟
الخطورة لا تكمن في أن الذكاء الاصطناعي يعطينا "معلومة خاطئة"، بل في أنه يعيد ترتيب الواقع نفسه بما يخدم تصورات معينة.
حين تُعرض الأخبار بتسلسل معين، وتُبرز قضايا وتُغيّب أخرى، ويتم الدفع بمصادر وتثبيط أخرى... فإننا لسنا أمام سردٍ موضوعي، بل أمام نص مُفخّخ، يُراد له أن يصنع فينا ردود فعل محددة.
ولأن كثيرًا من المستخدمين يثقون بالتقنية أكثر من الإعلام التقليدي، فإن ما يقوله "الذكاء الاصطناعي" أو "ترشيح الخوارزمية" يُصبح مصدرًا للثقة، حتى لو كان موجهًا ومُفلترًا.
ديمقراطية بلا وعي: حرية مشروطة بالخوارزميات
ما يُروّج على أنه "تمكين للمستخدم" هو في الحقيقة تقييد غير مرئي لحريته. نُمنح أدوات لاختيار المحتوى، لكن هذه الأدوات نفسها تعمل ضمن قوالب وضعتها شركات عملاقة لها مصالح سياسية واقتصادية عابرة للحدود.
الأسوأ أن هذه المنصات لم تعد فقط تنقل الواقع، بل تصنعه. تقارير الأمم المتحدة، قرارات الحرب والسلم، حتى نتائج الانتخابات، تتأثر بما يتم ترويجه وتضخيمه رقميًا.
فنحن لسنا أمام إعلام جديد، بل أمام هندسة رقمية للوعي الجماعي.
المستقبل: من يملك الذكاء يملك الحقيقة؟
حين تتحكم خوارزمية في ما يُعرض وما يُخفى، وفي من يظهر ومن يُقصى، فإننا أمام انقلاب في مفهوم "الحقيقة".
ليس الأصدق هو من يُقدّم أدلته، بل من تُضخّم منصته، وتُدعّم خوارزميًا.
بل إن الذكاء الاصطناعي اليوم يُستخدم لتوليد مقاطع صوتية وصور وفيديوهات مزيفة يصعب تمييزها من الحقيقة. وهذا يهدد فكرة "الواقع" ذاتها، ويجعل أي فضيحة قابلة للنفي، وأي شهادة عرضة للتشكيك.
خاتمة: الوعي النقدي هو الحصن الأخير
لن يوقف زحف الذكاء الاصطناعي خطاب رومانسي عن العودة إلى البساطة.
ما نحتاجه هو وعي نقدي بالمنصة، والخطاب، والسياق، والتمويل.
نحتاج أن نعلّم الأجيال القادمة أن ما يُقدّم على أنه "علم" قد يكون أداة هيمنة، وأن ما يُقترح كـ"اقتراح محايد" قد يكون توجيهًا مخططًا.
في زمن الديمقراطية الرقمية، من لا يملك أدوات قراءة السرديات، سيتحوّل إلى مجرد مستهلك صامت، يظن أنه يختار... بينما كل اختياراته قد تمّت برمجتها مسبقًا.