
وفي عالم رأسمالي استهلاكي، لم ينجُ الدين من هذا المصير. فالمقدّس – الذي يفترض أن يكون بوابة لل transcendence، أي للارتقاء فوق المادي – أُعيد تشكيله ليخدم منطق السوق، ويُختزل في منتجات وطقوس ونماذج قابلة للتسويق والربح والتصدير.
إننا نعيش لحظة تسليع المقدّس، لا بوصفها انحرافًا فرديًا، بل بنية ثقافية ممنهجة، يُعاد فيها إنتاج الدين وفق مقاسات المنصات، والإعلانات، والمواسم التجارية.
من المعنى إلى البضاعة: السوق يعلو على القيمة
لم يعد شهر رمضان – على سبيل المثال – موسمًا للتزكية والتقوى، بل صار "موسمًا إعلانيًا" تتنافس فيه الشركات والبنوك والمسلسلات والموائد العامرة.
والحج، الذي كان قمة التجرّد، صار مشهدًا سياحيًا مدجّنًا، يُحاط بالإعلانات والفنادق الفاخرة والتطبيقات الذكية والتصنيفات الطبقية.
حتى الكتب الدينية صارت تُسوَّق بناءً على الغلاف والعنوان الرنّان وعدد الإعجابات، لا على العمق والمضمون.
هذه ليست مظاهر عرضية، بل علامات على تحوّل الدين من مرجعية تُنظم الحياة، إلى سلعة تُستهلك لتزيين الحياة.
الرموز الدينية: من شعائر إلى ديكور
في هذا السياق، لم تسلم الرموز من التحويل.
الحجاب – عند البعض – أصبح "ستايلًا"، لا التزامًا. والآيات القرآنية تُطبع على الأكواب والتيشيرتات، وتُستخدم في الديكور، لكنها تُفصل عن المعنى والامتثال.
ويُشاهد الملايين برامج دينية رائجة لا لتزكية النفوس، بل للتسلية أو "تحفيز الطاقة الإيجابية"، فيما يتحوّل الداعية إلى مؤثر رقمي، ويُقاس نجاحه بعدد المشاهدات لا نوعية الأثر.
إنها علمنة ناعمة للمقدّس: إبقاؤه حاضرًا في الشكل، مغيَّبًا في المضمون.
الدين كأداة تهدئة اجتماعية: النُسخة المخففة
الأنظمة السلطوية والأنظمة النيوليبرالية على السواء، وجدت في الدين المُخفف أداةً مثالية لضبط المجتمعات.
تُدعم النسخ التي تركز على "الصبر"، "الرضا"، "الروحانيات"، وتتجنب "العدل"، "المسؤولية"، و"مقاومة الظلم".
بهذا يتحول الدين من قوة تحرير إلى أداة ترويض.
ومن مصدر نقد للنظام، إلى جزء من ديكوره العام.
المنصات الرقمية: الفضاء الجديد لتسليع الإيمان
مع سيطرة الإنترنت، أصبح الدين خاضعًا لقانون الترند.
يُختزل في مقاطع قصيرة، يُقطع عن السياق، ويُعاد إنتاجه بما يناسب زمن السرعة والانتباه المحدود.
وكلما كان الخطاب أكثر سطحية وأسهل في الهضم، حصد نسب مشاهدة أعلى. وهكذا، تُكافأ الرداءة، ويُقصى العُمق، ويُفصل الدين عن الواقع ليُقدَّم كوجبة خفيفة تريح الضمير وتمنع التفكير.
خاتمة: استعادة المعنى من بين ركام السوق
ما يحدث ليس تشويهًا للدين فحسب، بل سلب لمعناه الأصلي وتفريغه من دوره المحوري في إعادة توجيه الإنسان.
إن مقاومة هذا التزييف لا تكون بالانغلاق ولا بالرفض الهارب، بل بإعادة تأصيل المقدس داخل واقعنا، وتحريره من السوق، وإحياء الدين كقوة تحرير وبناء، لا كمنتج للاستهلاك أو ترفيه للوجدان.
فالمقدّس ليس للعرض... بل للهداية.
وليس للزينة... بل للبناء.