سيكولوجيا الخضوع: لماذا يدافع البعض عن من يقمعهم؟

لا تزال ظاهرة الولاء للجلاد أو ما يُعرف بسيكولوجيا الخضوع تشكل لغزًا نفسيًا وسياسيًا محيرًا. في أماكن عديدة من العالم، نجد فئات شعبية تدافع بشراسة عن أنظمة قمعية، أو زعماء يستنزفونهم اقتصاديًا ونفسيًا، بل ويتسببون في مآسيهم، في وقت يُفترض أن يكونوا هم الضحايا الذين يتوقون للحرية والكرامة. لماذا يحدث هذا؟ هل هو جهل أم خوف؟ هل هو ضعف أو إدمان نفسي على السلطة؟ أم أنه نظام معقد من الدفاعات النفسية والتفاعلات الاجتماعية والسياسية؟ هذا المقال يستكشف هذا السؤال من خلال تفكيك مفصل للبنية النفسية والاجتماعية التي تسمح لهذا الولاء المرضي أن ينمو ويتعزز.

العبد الراضي: أسطورة أم واقع نفسي؟

مصطلح "العبد الراضي" قد يُساء فهمه كإهانة سطحية، لكنه في الحقيقة يدخل في إطار فهم علم النفس السياسي والسوسيولوجي. العبد الراضي ليس مجرد شخص مستسلم، بل هو شخص يعاني من اضطراب في هويته النفسية، حيث يتحول الخضوع إلى آلية بقاء داخلية. التماهي النفسي مع الجلاد يُفسر بأنه شكل من أشكال الدفاع النفسي الذي يحمي الذات من التمزق والاضطراب الذي قد تسببه الصراعات الداخلية أو التهديدات الخارجية.

في تجارب عديدة، ثبت أن الأشخاص الذين يعيشون في ظل أنظمة قمعية قد يطورون إحساسًا بالتعلق العاطفي والنفسي مع القامع، ما يعرف أحيانًا بـ"متلازمة ستوكهولم" على مستوى جماعي، حيث يبدأ الضحية في تقدير أو حتى حب جلاده، كوسيلة لإيجاد معنى أو استقرار نفسي في بيئة معادية. هذا لا ينفي وجود مقاومة فعلية، لكنه يفسر لماذا نجد أعدادًا لا يستهان بها من الناس يدافعون عن من يقمعهم، بل ويتبنون خطاب القمع كجزء من هويتهم.

الخوف من المجهول أقوى من كراهية القمع

الحرية ليست فقط التحرر من القيد الخارجي، بل تحمل معها عبء اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية عن النتائج. هذه المسؤولية تمثل قلقًا وجوديًا لا يتحمله الجميع بسهولة، خصوصًا في المجتمعات التي عانت تاريخيًا من انعدام الاستقرار أو الحروب والفوضى.

الخوف من المجهول هو عامل نفسي قوي يحول دون مقاومة القمع. في هذا السياق، يصبح القمع أقل ضررًا من الانهيار الاجتماعي أو الاقتصادي، أو الفوضى التي قد تلي سقوط النظام. يحتمي الأفراد داخل حيز الاستقرار ولو كان مستعارًا ومبنيًا على الظلم، لأن الذعر من الفوضى والمجهول يخلق عقدة نفسية تُبقيهم في دائرة الخضوع.

هذا الأمر يفسر بعض ظواهر الولاء حتى عند وقوع كوارث إنسانية أو اقتصادية كارثية، حيث يستمر الناس في تأييد النظام الذي يضرهم، لأنهم يخافون الانهيار الأكبر، أو الضياع بدون "قائد" يحميهم حتى لو كان قمعه قاتلًا.

حين تصبح السلطة مصدرًا للهوية: لماذا يشعر البعض بالفراغ دون زعيم؟

في علم الاجتماع السياسي، يُنظر إلى السلطة أحيانًا ككيان يمد الأفراد بهوية مجتمعية ونفسية. عندما يُنشئ النظام القمعي سردًا متكاملاً يربط أفراد المجتمع برمز القائد أو الزعيم، تتحول العلاقة إلى علاقة تعايشية نفسية، حيث يصبح الزعيم هو البوصلة التي توجه وجودهم.

غياب هذا الزعيم، أو انهيار السلطة، يولد فراغًا نفسيًا واسعًا، قد يُفسر لاحقًا بأزمات هوية جماعية أو انفلات أمني واجتماعي. بعض الأفراد، في محاولة لتجنب هذا الفراغ، يكرسون أنفسهم في الدفاع عن النظام مهما بلغت درجة قسوته، لأنهم ببساطة يجدون فيه سببًا للوجود، ولو على حساب حريتهم.

هذا الارتباط يبرره أيضًا مفهوم "الطاعة كهوية"، حيث يُعوَّض الفراغ النفسي بشعور زائف بالانتماء والهدف، يستند إلى الطاعة غير المشروطة.

المنظومة التربوية والإعلامية كآلة تدجين

إن الأنظمة القمعية تعتمد بشكل استراتيجي على منظومات تعليمية وإعلامية لتشكيل الوعي الجماهيري. هذه المؤسسات لا تقوم فقط بتوفير المعلومات، بل تتحكم في سرديات التاريخ، السياسة، الهوية الوطنية، وحتى القيم الأخلاقية.

تعمل المنظومة التربوية على زرع قيم الطاعة والانتماء، وتجعل من الخطاب النقدي تهديدًا للهوية الوطنية، وبالتالي تُنتج جيشًا من المواطنين الذين يُعيدون إنتاج الطاعة والولاء عبر الأجيال.

أما الإعلام الرسمي، فيستخدم أدوات الدعاية والتضليل لإبراز قوى القمع كحامية للاستقرار، وشيطنة أي معارضة، بل وتحويلها إلى عدو داخلي يهدد "الوحدة الوطنية". بهذا الأسلوب، تُصبح معاداة السلطة خطرًا على الجماعة بأكملها، فتتراكم عقد نفسية تخدم استمرار القمع.

كيف يُبنى الولاء لرمز القمع على حساب العقل والمصلحة؟

الولاء المرضي هو ولاء يُبنى على أساس مشوه من الخوف والاعتماد النفسي وليس على العقلانية أو المصلحة الحقيقية. هذه الولاءات لا تسمح للمواطنين بالنظر بموضوعية إلى واقعهم المأساوي، بل تُغلق أمامهم آفاق النقد والتغيير.

تُستخدم مجموعة من الأساليب النفسية لتثبيت هذا الولاء، منها:

  • تعزيز الشعور بالذنب تجاه المعارضة أو المطالبين بالحرية.
  • استثارة العواطف السلبية تجاه "الأعداء" المفترضين.
  • خلق سرديات بطلان البدائل السياسية والاجتماعية.
  • تكريس ثقافة الصمت والقبول بالقمع كضرورة وطنية.

بهذه الطريقة، يصبح العقل محاصرًا، ويُلغى كمرآة للتحليل، وتحلّ عوضًا عنه مشاعر الولاء غير العقلاني، مما يطيل عمر الأنظمة القمعية ويعقد فرص الإصلاح أو التحرر.

خاتمة

يُظهر تحليل سيكولوجيا الخضوع أن الولاء للجلاد هو ظاهرة مركبة تنبع من حاجات نفسية عميقة وأُطر اجتماعية وسياسية تكرس الخضوع. ليست مجرد جهل أو ضعف، بل حالة معقدة تتداخل فيها مخاوف الإنسان من الفوضى والفراغ مع حاجته للانتماء والهوية.

لفك هذه الدائرة لا يكفي نقد القمع فقط، بل يجب العمل على بناء وعي نقدي عميق، يحرر الطاعة من قداستها الزائفة، ويُعيد الاعتبار للحرية كمسؤولية وحق مشروع.

في النهاية، فقط عبر هذا الفهم العميق والمتوازن يمكن للمجتمعات أن تتحرر من سيكولوجيا الخضوع وتبني أنظمة تستند إلى العدالة والحرية الحقيقية.

أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال