
الإعلام كخطاب لا كأخبار
الوجه الخفي للمعلومة
كثيرون يظنون أن الإعلام يقدّم "حقائق" و"أخبارًا"، محايدة في ظاهرها.
لكن ما لا يُقال أهم مما يُقال.
وما يبدو أنه نقل للمعلومة، هو في جوهره إنتاج للواقع الرمزي الموجَّه.
الإعلام لا ينقل فقط… بل يصوغ إطار التفكير الذي من خلاله نرى الحدث ونفسّره.
المعلومة لا تأتي وحدها… بل في حزمة خطابية
حين يُنقل خبر كالتالي:
"قُتل 10 أشخاص في اشتباكات بين قوات الأمن ومسلحين في حي مضطرب"
فأنت تتلقى ما يبدو أنه معلومة.
لكن لنلاحظ:
- لم يُذكر أن القتلى مدنيون
- تم توصيف الحي بـ"المضطرب"، مسبقًا
- كلمة "مسلحين" تُجرّد أي صفة أخلاقية أو إنسانية عن الضحايا
- تم إخفاء الفاعل وراء المبني للمجهول: "قُتل"، دون "مَن قتلهم"
هكذا تُنقل المعلومة بلغة تُعيد تعريف الحدث داخل إطار السلطة.
الإعلام لا يُخبرك فقط بما حدث… بل كيف تشعر حياله
الطريقة التي تُعرض بها المعلومة تؤثر في استجابتك:
- إن وُصف القتل بـ"حادث مؤسف"، ستميل للتعاطف
- إن وُصف بـ"حادث أمني"، ستراه ضرورة مؤسفة
- إن وُصف بـ"تصعيد إرهابي"، ستُدين الضحية
إنه نفس الحدث… لكن اختلاف الإطار الخطابي يصنع موقفًا مختلفًا تمامًا في ذهن المتلقي.
التكرار يصنع الحقيقة
في الإعلام، لا تحتاج الكذبة إلى دليل، بل إلى تكرار.
فحين يُعاد توصيف المقاومة بـ"عنف"، والفكر النقدي بـ"تطرف"، والمعارضة بـ"فوضى"،
يبدأ الجمهور بتبنّي هذه الأوصاف على أنها "حقائق موضوعية"،
رغم أنها ليست سوى خطابات مصممة بعناية.
من يتحكم في زاوية الرؤية؟
من يملك الكاميرا، يملك سرد القصة.
فحتى لو نُقل الخبر بصور حقيقية، فإن:
- زاوية التصوير
- لحظة الالتقاط
- التعليق المصاحب
- ترتيب الأخبار في النشرة
كلها أدوات خطابية تُعيد إنتاج الحدث من موقع القوة.
لا توجد معلومة بريئة
حتى اختيار الأخبار التي تُعرض – وتلك التي تُهمَّش –
هو قرار خطاب لا قرار تحرير.
حين يغيب خبر مجزرة عن العناوين، ويُستبدل بخبر عن أسعار النفط،
فذلك توجيه ضمني لأولويات القارئ ورؤيته للعالم.
الإعلام لا يخلق الوقائع… لكنه يخلق زاوية النظر.
ومن يضبط الزاوية، يضبط الوعي.