كيف نقرأ الماضي كي نفهم الحاضر: ما هو الوعي التاريخي؟ ولماذا يُزوّر؟

 

ما هو الوعي التاريخي؟ ولماذا يُزوّر؟

في زمن تُصاغ فيه العقول بوسائل الإعلام أكثر مما تُصقل بالكتب، يصبح الحديث عن "الوعي التاريخي" ضرورة فكرية لا ترفًا ثقافيًا. فالوعي التاريخي لا يعني معرفة التواريخ ولا سرد الحوادث، بل هو القدرة على فهم الحاضر بوصفه نتيجةً لمسارات ماضية، والتعامل مع التاريخ بوصفه حقلًا للتفسير لا للتقديس.

الوعي التاريخي هو منظار نعيد من خلاله قراءة اللحظة الراهنة، لا لنتعلق بأمجاد غابرة، بل لنفهم القوى التي أنتجت واقعنا، والسرديات التي شكّلت وعينا الجماعي. ولهذا، لم يكن عبثًا أن يصبح التاريخ أكثر الحقول عرضة للتزوير، وأكثرها استخدامًا كأداة أيديولوجية لصناعة الشرعية أو نزعها.

في العالم العربي، يُستخدم التاريخ غالبًا كخزانٍ للبطولة الزائفة أو كذريعة للتخلف الموروث. فحين يُراد تمرير مشروع استبدادي، يُستدعى التاريخ لتجميل الاستبداد. وحين يُراد تبرير الهزيمة، يُستدعى الماضي لإقناع الناس أن هذا قدرهم منذ الأزل. وهكذا يتحوّل التاريخ من حقلٍ للتحقيق إلى مسرحٍ للدعاية.

تزوير التاريخ لا يكون فقط بتلفيق الأحداث، بل في اختيار ما يُروى وما يُهمَل. في جعل بعض الشخصيات أبطالًا بلا مساءلة، وفي دفن أصوات الشعوب تحت ركام "الرواية الرسمية". ويُختزل الماضي إلى قصص شجاعة أو خيانة، دون أن يُتاح للفرد أن يفهم البُنى العميقة التي أنتجت تلك الأحداث.

إن تغييب الوعي التاريخي هو تغييب للقدرة على نقد الحاضر. فمن لا يفهم كيف وصلت مجتمعاته إلى ما هي عليه، سيظل يدور في حلقة التكرار، ويُعاد توجيه وعيه كل مرة إلى "ماضٍ مجيد" مزعوم أو "تاريخ خيانة" لا ينتهي. وهذا هو جوهر صناعة الوعي الزائف بالتاريخ.

لا يمكن أن نؤسس لفهمٍ نقدي للواقع دون تفكيك السرديات التاريخية التي نُلقّن بها في المدرسة والإعلام والخطاب السياسي. الوعي التاريخي الحقّ يبدأ حين نشكّ، لا حين نُردّد. حين نسأل: من كتب هذا التاريخ؟ ولصالح من؟ وماذا تم إسقاطه عمدًا من الرواية الكبرى؟

في هذا المسار، سنحاول كشف آليات تزوير الوعي التاريخي، ونقرأ أمثلة حيّة من خطابنا العربي، لنفهم كيف أصبح الماضي أداة للسيطرة لا للتحرر. ليس لأن التاريخ لا يهم، بل لأنه أهم مما يُروى لنا.

عودة إلى: القائمة الرئيسية

أحدث أقدم