فهم الخطاب الاعلامي - الوعي التاريخي: التاريخ كأداة للشرعنة : من يكتب الماضي ولماذا؟

 

التاريخ كأداة للشرعنة: من يكتب الماضي ولماذا؟

من يملك القدرة على كتابة التاريخ، يملك القدرة على هندسة الشرعية. فالتاريخ لم يكن يومًا مجرد سردٍ بريءٍ للأحداث، بل كان – في جوهره – عملية انتقائية تُعيد رسم الماضي بما يخدم حاضر السلطة، ويؤسس لامتدادها في الوجدان الجمعي.

السؤال المحوري ليس: "ماذا حدث؟"، بل "من الذي رواه؟ وكيف؟". فالروايات لا تتساوى، والمؤرخ ليس شاهدًا محايدًا بل فاعلٌ ضمن سياق اجتماعي وسياسي، تُشكّل فيه السلطة – بكل تجلياتها – المصفاة التي تمر عبرها الوقائع. ولهذا، لا نجد في التاريخ الرسمي إلا ما يُناسب الحاكم، ويُعلي من شأن السلطة، ويُقصي الروايات البديلة.

حين تكتب الدول تاريخها، فإنها لا تكتب "ما كان"، بل "ما ينبغي أن يُقال أنه كان". التاريخ يصبح خطابًا لا مرآة، ويُعاد إنتاجه لخلق هوية متخيّلة تُبرر الأنظمة، وتُجمّل إخفاقاتها. هكذا يُروى الماضي وكأنه مسيرة بطولية بلا عثرات، أو أنه مؤامرة كونية على "الأمة"، لتبرير الاستسلام أو الشكوى أو الانعزال.

فـ"شرعية الدولة" أو "شرعية الثورة" أو "شرعية السلالة" كثيرًا ما تستند إلى سردية تاريخية موجهة، تبدأ من "مؤسس عظيم"، وتمر بمؤامرات الأعداء، وتنتهي بـ"المخلّص" الذي يُعيد التوازن المفقود. بهذا المنطق، يُعاد إنتاج الرواية التاريخية مع كل نظام جديد، بحيث يمحو ما قبله ويُعيد ترتيب الوقائع لتناسب صورته الذاتية.

إن أخطر ما في استخدام التاريخ كأداة للشرعنة، هو أنه يُفرغ الماضي من تعقيده، ويُجرّده من أصواته المتعددة، ويُحيله إلى حكاية ذات اتجاه واحد: السلطة. ويتم تهميش الذاكرة الشعبية، وتُصنّف الروايات المعارضة إما كخيانة أو فوضى أو تخريب. وهكذا، لا يُزوَّر الحدث فحسب، بل يُقتل السؤال.

من يكتب التاريخ إذًا؟ في الغالب، هو المنتصر. لكنه ليس وحده. فالمنتصر يحتاج إلى مؤسسات تُعيد إنتاج روايته: التعليم، الإعلام، الفن، وحتى الأدب الرسمي. وكلها تُسهم في بناء صورة نمطية للتاريخ، تُصبح مع الوقت "الذاكرة الرسمية"، تُردَّد دون تمحيص، وتُحاكَى دون مساءلة.

في ظل هذا التوظيف الأيديولوجي للتاريخ، يصبح من الضروري أن نتبنى منهجًا تفكيكيًا في قراءة الماضي، لا احترامًا للتاريخ في ذاته، بل احترامًا لحقنا في الفهم والنقد والمساءلة. فليس الهدف أن نُكذّب كل رواية، بل أن نُدرك أن كل رواية لها سياق، وكل سياق له مصالح.

سلسلة: مسارات فهم الخطاب الإعلامي

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.