من يكتب الرواية الرسمية؟
في كل أمة، هناك رواية تُروى على أنها الحقيقة. تُدرّس في المدارس، وتُحتفى بها في الإعلام، وتُستعاد في المناسبات الوطنية، حتى تصبح جزءًا من هوية الأفراد. لكن من يكتب هذه الرواية؟ ومن يقرر أيُّ صوتٍ يُسمع وأيُّ صوت يُسكت؟ وهل الرواية الرسمية تعكس الواقع حقًا أم تُفصّل على مقاس السلطة؟
الرواية الرسمية ليست سردًا محايدًا للوقائع، بل هي نتاج انتقاء وتوجيه وتأويل، يهدف إلى خلق سردية موحدة تخدم مصالح القوى المهيمنة. إنها أداة من أدوات الضبط الثقافي والسياسي، تُستخدم لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفقًا لأجندة من يملك سلطة الخطاب.
حين نراجع تاريخ الأمم، نجد أن الروايات الرسمية غالبًا ما تُمجّد السلطة، وتُشيطن الخصوم، وتُخفي لحظات الانقسام أو القمع أو التناقض. تُظهر القادة على أنهم أبطال، وتُخفي فشلهم. تُعلي من شأن "الانتصارات" وتُسدل الستار على الهزائم. هذا التحيّز ليس عفويًا، بل مقصود، ويهدف إلى ترسيخ شرعية الحكم وتبرير ممارساته.
في كثير من الدول، يتولى جهاز الدولة، بالتعاون مع مؤسسات الإعلام والتعليم، مهمة إنتاج الرواية الرسمية. تُسخّر المناهج الدراسية لتلقين "النسخة الصحيحة" من التاريخ، وتُمنع الكتب التي تناقضها، وتُلاحق الأصوات التي تطرح روايات بديلة. الإعلام، بدوره، يُعيد إنتاج هذه السردية وتجميلها وتكرارها حتى تصبح واقعًا لا يُناقش.
لكن في زمن الإنترنت وتعدد المنصات، لم تعد الرواية الرسمية تهيمن وحدها. ظهرت روايات بديلة، سرديات المهمّشين والمنفيين والضحايا. وهنا تبدأ المعركة بين الحقيقة والتأويل، بين الماضي كما حدث، والماضي كما تريد السلطة أن يُروى.
الوعي الحقيقي بالتاريخ يبدأ من مساءلة الرواية الرسمية، لا من التسليم بها. من طرح السؤال الجوهري: ماذا حُذف؟ ومن لم يُسمع صوته؟ وما الذي تحاول هذه الرواية أن تُخفيه؟ حين نفعل ذلك، نبدأ في كتابة التاريخ من جديد – لا كما أُملي علينا، بل كما هو في حقيقته.
من يكتب الرواية الرسمية؟
التاريخ كما يُدرّس في المدارس، ويُعرض في وسائل الإعلام، ويُحتفى به في المناسبات الوطنية، ليس مرآة لما حدث، بل انعكاس لما أرادت السلطة أن يُقال. فالرواية الرسمية لا تُكتب لتوثيق الحقيقة، بل لصناعة شرعية، وتبرير واقع، وتوجيه مستقبل. وهنا يكمن السؤال الجوهري: من يكتب الرواية الرسمية؟ ولماذا؟
حين تسيطر السلطة على أدوات التعليم والإعلام والثقافة، فإنها لا تكتفي بإدارة الحاضر، بل تضع يدها على الماضي أيضًا. فتُنتج سردية تاريخية تحكي عن "بطولات" و"نهضات" و"أمجاد" تختارها بعناية، وتحذف منها كل ما قد يشكك في المشروعية السياسية أو يشوّش على صورة "الزعيم المؤسس"، أو يفضح مراحل القمع والفساد والتواطؤ.
الرواية الرسمية لا تُكتب في كُتب التاريخ فحسب، بل تُبثّ في نشرات الأخبار، وتُغنّى في الأناشيد، وتُطبع على العملات، وتُحوَّل إلى أفلام ومسلسلات، وتُزرع في أذهان الأطفال منذ الصغر. إنها مشروع متكامل لتثبيت ذاكرة موالية، يُعاد فيها سرد الماضي بلغة الحاضر، وبخدمة أهدافه.
والرواية الرسمية ليست كذبة تامة، بل انتقاء متحيز للحقائق. تختار وقائع محددة وتُسلّط عليها الضوء، وتُخفي أخرى عمدًا، أو تُعيد تأويلها لتخدم القصة الكبرى التي تريد السلطة تثبيتها. وربما تجد في كتب التاريخ روايات عن "تحرير" حيث كان هناك اجتياح، وعن "وحدة" حيث وُجد قسر، وعن "حوار" حيث كان قمع. كل ذلك باسم الأمة، والمصلحة العامة، والاستقرار.
لكن من يكتب الرواية الرسمية ليس بالضرورة سياسيًا فقط، بل يشارك فيها مؤرخون مأجورون، وصحفيون مروّجون، ومؤسسات ثقافية تموّلها الدولة، ومنظومات تعليمية مفصّلة وفق النموذج المراد ترسيخه. فالسلطة لا تكتب التاريخ وحدها، بل تُجنّد كل من يستطيع أن يحوّله إلى ذاكرة جمعية مسيطر عليها.
تكمن خطورة الرواية الرسمية في أنها تصبح "الحقيقة" الوحيدة المتاحة لأجيال كاملة، بينما تُقصى الروايات البديلة وتُصنّف على أنها تشكيك، أو خيانة، أو تآمر. وهكذا يتحوّل التاريخ من مادة للتفكير والمساءلة إلى أداة للتعبئة والتطويع.
لكسر هذا النمط، لا بد من مساءلة من يكتب، ولماذا يكتب، ولصالح من تُقال هذه الحكاية. فلا وعي جماعي حقيقي دون تفكيك الرواية الرسمية، ولا مصالحة وطنية دون فتح الأرشيفات، ولا ديمقراطية دون تعدد السرديات.