
انتقاء الوقائع أم صناعة التاريخ؟
من يظن أن التاريخ يُكتَب كما حدث، يقع في فخ الوهم. فالتاريخ لا يُروى كما هو، بل كما يُراد له أن يُروى. والمؤرخ، أو من يحكم قبضته على مؤسسات الذاكرة، لا يكتفي بتسجيل الوقائع، بل ينتقي منها ما يخدم السردية التي يريد ترسيخها. وهنا يكمن جوهر السؤال: هل يتم فقط انتقاء بعض الوقائع؟ أم أن هناك صناعة كاملة للتاريخ تجري خلف الكواليس؟
الانتقاء هو الخطوة الأولى. حيث يتم تجاهل بعض الأحداث، وتضخيم أخرى، وحذف ما يحرج، وتسليط الضوء على ما يعزز السردية الرسمية. وهذا بحد ذاته كافٍ لتغيير الصورة. فلو نظرت إلى لوحة كبيرة من ثقب ضيق، لن ترى إلا جزءًا منها. كذلك يفعل التاريخ المنتقى.
لكن الأخطر من ذلك هو صناعة التاريخ. فليست كل الروايات الزائفة قائمة على الإغفال أو الحذف فقط، بل تُضاف إليها عناصر مختلقة بالكامل: معارك لم تحدث، بطولات لم تقع، خيانات لم تقع، وقادة أُلبسوا ثيابًا لم يرتدوها. هذه ليست رواية لما حدث، بل هندسة للوعي الجمعي لتصديق ما لم يحدث.
تاريخ الشعوب يُعاد تشكيله بعد كل انقلاب، أو صعود سلطة جديدة. فكل سلطة تحتاج إلى ماضٍ يمجّدها، ويبرر وجودها، ويمحو خصومها. ولهذا تُنشأ اللجان "الرسمية" لإعادة كتابة المناهج، وتُمنح جوائز لأفلام ومسلسلات تروّج للرواية المطلوبة، وتُفتح أرشيفات وتُغلق أخرى حسب الحاجة.
والسؤال هنا ليس فقط: ما الذي نعرفه من التاريخ؟ بل: كيف عرفناه؟ ومن اختار لنا هذه النسخة بالذات؟ ما الفرق بين ذكر الوقائع وتحويلها إلى أسطورة؟ وبين شهادة مؤرخ مستقل، وبيان إعلامي مموَّه بلغة "التاريخ"؟
إن إعادة النظر في كل ما تعلّمناه من التاريخ ليس ترفًا، بل ضرورة. لأن من يُصدّق تاريخًا صُنع له، لا يعرف حاضره حقًا. ومن لا يعرف كيف تم انتقاء ماضيه، لن يدرك كيف يُصاغ مستقبله.
كلمات مفتاحية: انتقاء الوقائع، صناعة التاريخ، التلاعب بالذاكرة، الرواية التاريخية، تزوير السرديات، التاريخ والسلطة، إعادة كتابة التاريخ، السرد الرسمي، التاريخ كأداة سياسية، تحريف الماضي.
المقال :
انتقاء الوقائع أم صناعة التاريخ؟
التاريخ لا يُروى كما هو، بل كما يُراد له أن يُفهم. وبين الواقع والرواية، تنشأ فجوة خفية تُسمى "الانتقاء". لكن، هل يكفي انتقاء بعض الوقائع لصناعة سردية تاريخية؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى صناعة التاريخ ذاته وفق هندسة معرفية تخدم مصالح محددة؟
الفرق الجوهري بين التأريخ وصناعة التاريخ هو الفرق بين التوثيق والتحكم. التأريخ يُفترض أن يكون جمعًا وتحليلًا ونقدًا للوقائع، أما صناعة التاريخ فهي عملية متعمدة لإنتاج قصة متماسكة، تبدو طبيعية ومقبولة، لكنها مبنية على حذوفات منهجية وتضخيم متعمّد لبعض الأحداث أو الشخصيات.
فحين تُسلّط الأضواء فقط على الانتصارات، وتُحجب الهزائم، وحين تُضخّم أدوار "الزعماء" وتُهمّش أدوار الشعوب، وعندما يُعاد توصيف أحداث القمع بوصفها "قرارات ضرورية لحماية الاستقرار"، فهنا لا نتحدث عن انتقاء بريء، بل عن إعادة تشكيل للوعي التاريخي.
الانتقاء الموجّه لا يعني اختلاق أحداث من العدم، بل ترتيب الوقائع في سياق يخدم غرضًا سياسيًا أو أيديولوجيًا. تُوضع بداية زائفة للتاريخ، أو تُحذف حلقات تربك السردية الرسمية، أو يُعاد تصنيف أحداث كـ"فتن" بدلًا من "ثورات"، أو تُختزل مسارات معقدة في شعارات تبسيطية تكرّس رؤية واحدة.
ومن المثير أن يُقال للأجيال إن "الحقبة الفلانية كانت ذهبية"، بينما كل الشهادات الفردية منها تنطق بالقهر والصمت والخوف. أو أن يُدرس "الاستقلال" بوصفه لحظة مجيدة، دون الإشارة إلى التواطؤات والصفقات التي سبقت رفع العلم. هذه ليست مجرد رواية ناقصة، بل سردية مصمّمة عن عمد لتوليد شعور معين تجاه الماضي، ومن ثم تجاه الحاضر.
صناعة التاريخ ليست فقط أداة لتجميل الماضي، بل أيضًا لتوجيه الحاضر وضبط المستقبل. فهي تُحدّد "من كنا"، لتُجيب ضمنًا عن "من يجب أن نكون"، وتفرض علينا نماذج للبطولة، ومعايير للشرعية، وصورًا للعدو، تُبرّر من خلالها السياسات الراهنة.
وحتى اللحظة، تُكتب بعض فصول التاريخ بأقلام رجال السلطة، وتُحذف أقلام الشهود، ويُترك الهامش فارغًا حيث يجب أن تكون فيه الحقيقة.
لكسر هذه الدائرة، لا يكفي إعادة قراءة التاريخ، بل يجب فضح منطق الانتقاء نفسه، وطرح السؤال الأكثر خطورة: ماذا لم يُقَل؟ ولماذا؟ ومن يملك الحق في الصمت؟
كلمات مفتاحية: صناعة التاريخ، الانتقاء التاريخي، تزوير الوعي، السرديات الرسمية، إخفاء الوقائع، السلطة والتاريخ، تزييف الذاكرة، تحكم الرواية، التلاعب بالتاريخ، التلاعب بالذاكرة الجمعية.