
الهندسة الجيوسياسية: من منح الاستقلال ومن أملاه؟
بعد الحربين العالميتين، خاضت شعوب كثيرة معارك عنيفة ضد الاستعمار المباشر، ونالت استقلالها السياسي. لكن في معظم الحالات، جاء هذا الاستقلال وفقًا لترسيمات القوى الكبرى لا وفقًا لمطالب الشعوب. وهكذا وُلدت عشرات الكيانات في قارتي آسيا وأفريقيا بناءً على خرائط رسمها المستعمر نفسه، ثم سلّمها لنخب درّبها في جامعاته، وزوّدها بمفاهيم "الدولة الحديثة" كما أرادها.
النتيجة: دول مستقلة اسمًا، تابعة وظيفةً.
السيادة المقنّعة: كيف تُمارَس الوصاية دون جيوش؟
لم يعد الاستعمار بحاجة إلى قواعد عسكرية لإدارة بلد ما. أدوات الهيمنة اليوم أكثر نعومة وفعالية:
- اتفاقيات أمنية تجعل البلد ملزمًا بحماية "مصالح الشركاء الدوليين".
- قروض مشروطة من مؤسسات مالية تُملي السياسات الاقتصادية.
- شركات متعددة الجنسيات تُدير الموارد وتُعيد الأرباح للخارج.
- نخب حاكمة تعتمد في بقائها على الدعم الخارجي، لا على الشرعية الشعبية.
تبدو الدولة هنا كمنزل أنيق، لكن مفتاح بابه في جيب آخرين.
قرارات تُصنَع في الخارج
حين تنشب أزمة إقليمية، أو تنفجر ثورة شعبية، أو يُرتكب عدوانٌ ما، تظهر الحقيقة. الدولة التي تدّعي الاستقلال تنتظر الموقف الأمريكي أو الأوروبي لتتحرك، وتنتظر تقارير "المجتمع الدولي" لتدين أو تصمت، وتخشى غضب السفارات أكثر مما تخشى غضب الشعب.
كم من دولة "مستقلة" امتنعت عن دعم قضية عادلة لأن الغرب لم يأذن؟ وكم من حكومة غيّرت موقفها بعد اتصال هاتفي من عاصمة كبرى؟ السيادة لا تُختبَر في وقت السلم، بل عند الاختبار.
الوكالة السياسية: حين تكون الدولة موظفًا لا سيدًا
أخطر ما في هذا النموذج من "الاستقلال الزائف" هو أن الدولة تتحول إلى وكيل مصالح، لا فاعل مستقل. هي تنفذ ما يُطلب منها مقابل البقاء في الحكم، وتُعيد إنتاج التبعية جيلًا بعد جيل عبر التعليم والإعلام والتشريع. حتى المشاريع الاقتصادية الكبرى تُبنى لتخدم سلاسل التوريد العالمية لا حاجات المواطن، ويُعاد توجيه السياسات بما لا يُغضب الممول.
إنها دولة بلا قرار... لها علم لكن لا قرار، لها جيش لكن لا سيادة، لها مؤسسات لكن لا استقلال حقيقي.
خلاصة الفرق: الاستقلال الحقيقي ليس نشيدًا وطنيًا
الفرق بين الاستقلال الشكلي والاستقلال الحقيقي ليس في الدستور، بل في الإرادة السياسية الحرة. الدولة المستقلة فعلاً هي من تستطيع أن ترفض الإملاءات، أن تدعم من تشاء، أن تبني نموذجها الخاص، ولو كلّفها ذلك ثمنًا. أما الدول التي تعيش على الدعم المشروط، وتخشى الصدام مع القوى المهيمنة، فهي كيانات تحت الوصاية، مهما رفرفت أعلامها.
الوعي بهذه الفروق هو الخطوة الأولى نحو التحرر الحقيقي، لا من الاحتلال العسكري فقط، بل من كل أشكال الجبر السياسي والوصاية المستترة.