
فما كان يُصوّر كمجرّد تصعيد محلي، انقلب إلى لحظة استراتيجية فارقة كشفت هشاشة المعادلات القديمة، ودفعت الشرق الأوسط إلى طور جديد من إعادة التشكل الجيوسياسي.
انهيار وهم "الردع الإسرائيلي"
لطالما بنى الاحتلال الإسرائيلي صورته على مفهوم التفوق المطلق والردع الساحق.
لكن العمليات النوعية في 7 أكتوبر، وردّ الفعل الجماهيري والشعبي في أكثر من ساحة، أكّدت أن الردع الإسرائيلي قد تآكل فعليًا.
المفارقة أن تل أبيب، رغم قوتها العسكرية، لم تنجح في تحقيق "نصر حاسم"، بل غرقت في مستنقع استنزاف طويل المدى كشف حدود القوة التقليدية أمام إرادة الصمود.
البحر الأحمر: جبهة جديدة في صراع النفوذ
مع امتداد الحرب إلى باب المندب، تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة غير تقليدية.
استهداف السفن "ذات الصلة بإسرائيل" و"الداعمين لها" من قبل جماعة أنصار الله في اليمن أعاد خلط معادلات التجارة العالمية، وأدخل قوى دولية إلى المعادلة.
لكن خلف مبررات "أمن الملاحة"، يختبئ سباق محموم للسيطرة على عقدة استراتيجية تربط آسيا بأوروبا.
والمفارقة أن الرد العسكري الغربي لم يُنهِ التهديد، بل ضاعفه، وفتح الباب أمام مزيد من الاصطفاف المناهض للهيمنة.
اتفاقيات "أبراهام": مشروع تطبيع تحت الأنقاض
الهجوم على غزة فجّر المخزون الشعبي العربي الرافض للتطبيع، وأسقط الخطاب الذي روّج "السلام مقابل الازدهار".
أنظمة عربية حاولت الحفاظ على علاقاتها مع الاحتلال، لكنها وُضعت أمام ضغط شعبي غير مسبوق، وحرج سياسي عميق.
وباتت اتفاقيات "أبراهام" تبدو وكأنها مشروع ولد ميتًا، أو على الأقل، مؤجّل إلى أجل غير مسمّى.
محور المقاومة: من الهوامش إلى التأثير
في خضمّ صراع السرديات، ظهر "محور المقاومة" كفاعل لم يعد يُمكن تجاوزه.
لبنان، اليمن، العراق، إيران... جميعها خرجت من هامش الخطاب إلى صلب المعادلة، لا عبر الخطابة، بل عبر تأثير فعلي على الأرض.
وهذا التحوّل ليس مجرّد تصعيد، بل تطور في البنية الجيوسياسية للمنطقة، حيث لم تعد القوى التقليدية هي وحدها من يملك زمام المبادرة.
الشرق الأوسط: بين التقسيم الجديد والتوازن المتحرّك
لا يتّجه الشرق الأوسط إلى حدود جديدة فقط، بل إلى تصورات مختلفة للسيادة، والشرعية، والتحالف.
فالدول لم تعد تُقاس بمدى قربها من واشنطن، بل بمدى قدرتها على الصمود أو المناورة.
كما أن إسرائيل، التي كانت تُقدَّم كحليف لا غنى عنه، باتت عبئًا استراتيجيًا على الغرب، ومصدر توتر دائم بدلًا من عنصر استقرار.
خاتمة: خريطة بلا مركز
الشرق الأوسط يدخل مرحلة ما بعد الخرائط الكلاسيكية.
فلا عواصم محورية كما في السابق، ولا تحالفات جامدة، بل مسارات مفتوحة تتقاطع فيها المصالح المحلية بالقوى الدولية.
من غزة إلى البحر الأحمر، ومن شعوب المقاومة إلى خطوط الملاحة، تُعاد كتابة جغرافيا جديدة بلغة مغايرة، وتوازنات لا تعترف بالماضي، ولا تضمن المستقبل.