تمزيق الملايو: حين تُرسم الخرائط على أجساد الشعوب

خرائط ممزقة، شعوب مبتورة

في مطلع القرن العشرين، لم يكن رسم الخرائط عملًا بريئًا لتحديد المسافات والحدود، بل كان أداة استعمارية بامتياز، تُستخدم لاقتطاع الهويات، وتفكيك المجتمعات، وتمزيق الأمم. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في شبه جزيرة الملايو، حيث قررت الإمبراطورية البريطانية أن ترسم خطًا على الورق، يفصل الملايو عن الملايو، ويمنح جزءًا كبيرًا من الشعب والثقافة والمصير لدولة أخرى، لا تشبهه في شيء......


لكن لماذا حدث ذلك؟ ولماذا تخلّت بريطانيا، في صفقة باردة، عن أراضٍ ذات هوية إسلامية ملايوية واضحة؟ وما الأهداف الاستراتيجية الخفية لهذا التقسيم؟ ولماذا لا يزال الجرح ينزف حتى اليوم في جنوب تايلند؟

دعونا نقرأ ما وراء الخريطة.

اتفاقية 1909: حين باعت بريطانيا الملايو لتايلند

في عام 1909، وُقعت اتفاقية مشؤومة بين بريطانيا ومملكة سيام (تايلند اليوم)، تُعرف باسم:

Anglo-Siamese Treaty of 1909

وبموجب هذه الصفقة:

  • أعطت بريطانيا سيام السيادة الكاملة على أربع مناطق ذات أغلبية ملايوية مسلمة:
        فطاني (Pattani)، يالا (Yala)، ناراتيوات (Narathiwat)، ستون (Satun)
  • في المقابل، ضمت بريطانيا إلى مستعمراتها في "ملايا" (التي أصبحت لاحقًا ماليزيا) المناطق التالية:
        كلنتان، ترنجانو، قدح، بيرلس

وهكذا، تمزّقت الأمة الملايوية على يد أقلام الدبلوماسيين البريطانيين والملوك السياميين، دون أن يُستشار أهل الأرض، ودون أن يؤخذ في الحسبان دينهم، لغتهم، ثقافتهم، أو حتى حقهم في تقرير المصير.


بريطانيا لم تكن جاهلة... بل كانت تخطط

ما حدث لم يكن ناتجًا عن جهل بالتوزيع العرقي أو الجغرافي، بل عن رؤية استراتيجية استعمارية واضحة، أرادت من خلالها بريطانيا أن:

  • تؤمن موانئها الحيوية قرب مضيق ملقا.
  • تضمن علاقة "مستقرة" مع سيام كبَدل جغرافي عن مواجهة النفوذ الفرنسي في الهند الصينية.
  • تفتت الكتلة الثقافية الملايوية المسلمة حتى لا تتشكل وحدة قد تُهدد النفوذ البريطاني لاحقًا.

لقد قررت بريطانيا، ببساطة، أن تترك فطاني ويالا وبقية الجنوب في يد سيام، على الرغم من أن سكانها يتكلمون الملايوية، ويدينون بالإسلام، وينتمون إلى ذات الجذور التي شكلت ماليزيا الحديثة.


أهداف التقسيم: استراتيجية طويلة المدى

لم يكن هذا التقسيم صدفة، بل كان جزءًا من هندسة استعمارية تهدف إلى خلق واقع دائم من الانقسام والاضطراب، ويمكن تلخيص الأهداف الاستراتيجية كما يلي:

1. كسر الوحدة الحضارية الإسلامية في المنطقة

شبه جزيرة الملايو كانت تمثل إحدى أهم القلاع الحضارية الإسلامية في شرق آسيا، إلى جانب إندونيسيا وبروناي. بتقسيمها، تم تقليص الفضاء الإسلامي الجغرافي، وعُزلت الملايو المسلمة عن بعضها البعض، بهدف منع ظهور مشروع ثقافي أو سياسي موحّد.

2. خلق "قنبلة إثنية" قابلة للتفجير

بترك أكثر من مليون ونصف مسلم من الملايو تحت حكم بوذي تايلندي، ضمنت بريطانيا أن يبقى هناك توتر دائم يمكن استخدامه لاحقًا كورقة ضغط ضد كل من تايلند وماليزيا، بحسب الحاجة الجيوسياسية.

3. منع ماليزيا من التوسع أو لعب دور إقليمي أقوى

لو كانت أراضي فطاني ويالا وناراتيوات ضمن ماليزيا:

  • لكانت مساحة الدولة وتعدادها أكبر.
  • ولكانت حدودها أكثر تجانسًا ثقافيًا.

لكن بهذا التقسيم، أصبحت ماليزيا مكبّلة بمخاوف أمنية وحدودية ودبلوماسية، وأُجبرت على الحذر في علاقتها بجنوب تايلند، خشية اتهامها بالتدخل في شؤون الجوار.

4. تذويب الهوية الملايوية في الجنوب التايلندي

منذ لحظة التنازل عن الأراضي الملايوية لتايلند، بدأت الأخيرة سياسة طويلة الأمد لطمس الهوية الثقافية والدينية للمسلمين:

  • فرضت اللغة التايلندية في التعليم والإدارة.
  • قلّصت التعليم الديني الإسلامي.
  • قمعت الحركات القومية الملايوية.

واليوم، وبعد أكثر من قرن على الاتفاقية، لا تزال المنطقة تغلي، ويشهد الجنوب التايلندي تمردًا مسلحًا ومقاومة ثقافية، رغم التعتيم الإعلامي الدولي.


ما الذي ضاع حقًا؟

الذي ضاع لم يكن مجرد شريط حدودي، بل جزء من الأمة، والتاريخ، والهوية.

ضاعت فرصة أن تعيش الملايو كلها تحت راية واحدة.
ضاعت العدالة في حق تقرير المصير.
وضاعت السيادة الثقافية لشعب أُجبر على العيش في دولة لا تمثّله.


خلاصة: عندما تُرسم الخرائط لتفتيت الروح

تقسيم أراضي الملايو لم يكن نهاية مرحلة استعمار، بل بداية هندسة طويلة الأمد لمستقبل ممزق. واليوم، حين ننظر إلى الخارطة ونرى الجنوب التايلندي معزولًا عن جسد ماليزيا، علينا أن نفهم أن هذه ليست مجرد جغرافيا، بل نتيجة حسابات سياسية استعمارية ما زلنا ندفع ثمنها.

فمن يرسم الحدود، يملك سلطة تقسيم التاريخ، وتشتيت الذاكرة، وتمزيق الهويّة.

أحدث أقدم
🏠