في زمن المشاهد القصيرة والانفعالات السريعة، تُسحق القيم ببطون مفتوحة، وتُقدَّم الغرائز كأنها بطولات. ترى شابًا يلتهم ثلاثين قطعة دجاج حار أمام الكاميرا، وآخر يبتلع وجبة تكفي أسرة بأكملها، وطفلًا يُصفّ صحن فلفل حارق ليكسب "تحدي المليون مشاهدة".
هذا ليس طعامًا، بل مسرح عبثي، تُستعرض فيه الشهية كقوة خارقة، ويُحتفى فيه بالامتلاء حتى الاختناق كأعلى درجات الإنجاز.
من الجوع الحقيقي إلى الاستعراض الغرائزي
في الماضي، كان الأكل استجابة لحاجة، واليوم أصبح استجابة لـ"الترند". الأكل في هذه العروض لا يُشبِع، بل يُصوَّر. لا يُستهلك بدافع الجوع، بل بدافع اللهاث خلف الإعجابات. تُؤكل الوجبات كما تُمارس الألعاب البهلوانية: لإبهار الجمهور، لا لتغذية الجسد.
بلع المعنى.. قبل الطعام
هذه التحديات لا تكتفي بابتلاع الطعام، بل تبتلع المعنى. فحين يتحول الفعل الإنساني البسيط (الأكل) إلى تحدٍّ يُقاس فيه التفوق بكمية ما يُلتهم، يفقد الفعل رمزيته الأصلية المرتبطة بالبقاء، المشاركة، التذوق، والوعي. يُستبدل كل ذلك بمشهد يُمَجِّد الابتلاع السريع، وكأن الفم آلة، والمعدة ساحة رماية.
الجسد كأداة في سيرك الشهية
المشترك في هذه الفيديوهات ليس نوع الطعام، بل تحوّل الجسد إلى أداة في عرض بهلواني. الفم يتضخم ليبتلع، المعدة تتوسّع لتتحمّل، والغثيان يُتجاهل من أجل اللقطة الأخيرة. إنها لحظة انفصال رمزي بين الإنسان وجسده، يُدفع فيها الكائن الحي إلى استخدام جسده ضده.
ثقافة "التحدي" الزائف
يُقدَّم هذا النوع من المحتوى على أنه تحدٍّ، لكنه في الحقيقة استسلام. لا جرأة هنا، بل انسياق. التحدي الحقيقي هو الامتناع، هو وعي الجسد لا تعذيبه. أما ما يُسمّى تحديًا في هذا السياق، فهو أقرب إلى رقصة غريزية في حلبة الذوق الفاسد، حيث يُكافَأ من يضحك على جسده أكثر.
مفارقة التخمة في عالم جائع
وفي خلفية هذا العرض الفارغ، يقف مشهد عالمي مأساوي: مجتمعات تكافح الفقر، شعوب تُهدَر طاقتها في تأمين وجبة يومية، وأطفال لا يعرفون معنى الشبع. بينما يُلقى بالطعام على الشاشات في حفلات ابتلاع جماعية، لا تُنتج إلا الضحك السطحي والتخمة العبثية.
