فكر وفلسفة

تحت خط الفقر.. وفوق خط الغنى

حين تتبدّل القيم بين القاع والقمة في أرض بعيدة، لا تُرسم على خرائط الجغرافيا بل تُحفر على خرائط القلوب، عاشت فئتان من الناس في عالمين لا يلتقيان. بينهما خطّ غير مرئي، لكنه كان كالسيف القاطع. أسموه "الخط الفاصل" . من الجهة السفلى، عاش قوم السُفليّين ، تحت ما سمّاه الحكماء "خط الفقر". لا يملكون كثيرًا، لكنّهم عرفوا قيمة القليل. الخبز عندهم وليمة، والكلمة الطيبة رأس مال. إذا ضحك أحدهم، ضحكت القلوب من حوله، لأنهم يعرفون أن الضحك في القاع لا يُهدى إلا بعد وجع.

الوصاية على الله: حين يتحدث الحاكم باسم الدين والدين باسم الحاكم

في لحظات الخوف الجماعي أو الانهيار القيمي، ينهض صوت غليظ يصرخ من فوق المنبر أو من خلف الميكروفون: "احذروا، من يعارض الحاكم فقد عارض الله!". هكذا تُنتزع الألوهية من السماء وتُسلّم مفاتيحها لوليّ الأمر. لا لأنّ الحاكم نبيّ، ولا لأنّ السلطان مُلهم، بل لأنّ الدين – في نسخته الرسمية – بات أداة فوق رؤوس العباد، لا رحمةً في قلوبهم. هذا المقال ليس عن الدين، بل عن الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء عليه، وعن العلاقة المحرّفة بين السلطة والشرعية، حين يتحوّل الخطاب الإلهي إلى ختم حكومي، وتُصبح الفتوى …

حين اختُطف التصوف: من مجاهدة النفس إلى تسكين الشعوب

في زمنٍ لم تكن فيه الأسماء قد وُضعت بعد، كان بعض الناس يسلكون طريقًا خفيًا لا صخب فيه ولا ادّعاء: طريق الزهد في الدنيا، والورع عن الشبهات، ومجاهدة النفس في السرّ قبل العلن. لم يكن يُسمى "تصوفًا"، ولم يكن له لباس ولا طقس، بل كان امتدادًا لما كان عليه النبي ﷺ وصحابته وسلف الأمة: تديّن خالص، وسلوك زاهد، وقلوب تخشى الله دون ضجيج. لكن شيئًا فشيئًا، بدأ هذا الطريق يُنسب إلى اسم، ويتحول إلى طُرق، ثم إلى جماعات، ثم إلى طقوس… حتى انتهى - في كثير من تجلياته - إلى صورةٍ مقلوبة من روحه الأولى.

أنا الآخر الذي لا يشبهني: حين تُصنَع الهويات في المختبرات

في زمن فقدان المعنى، لم تعد الهوية تنبع من الذات، بل تُصبّ في قوالب مُعدّة سلفًا، كما تُصبّ المواد الكيميائية في المختبرات. هويات تُصنع لا لتنتمي، بل لتتماهى. لا لتعبر عنك، بل لتعبر بك نحو ما لا يشبهك. في مختبرات الحداثة المعولمة، يجري خلط مركّب غريب: قليلٌ من الدين منزوع الروح، كثيرٌ من الفردانية بلا مسؤولية، جرعةٌ من الوطنية المشروطة، ونكهة خفيفة من الثقافة الشعبية المستوردة. ثم يُقال لهذا الخليط: "هذه أنت. كن سعيدًا."

الذاكرة المطمورة: هل نحن أول من صعد إلى القمة؟

في خضم الزهو الإنساني بالمنجزات العلمية، والتطور التكنولوجي، والانتصارات المتلاحقة على المجهول، تسود فكرة ضمنية أن الإنسان المعاصر هو ذروة الوعي والذكاء، وأن كل ما سبقه كان مجرد بدائية ساذجة تتلمس طريقها نحو ما وصلنا إليه. لكن… ماذا لو لم نكن أول الواصلين؟ ماذا لو لم تكن "البدائية" مرحلة ما قبل الصعود، بل ما بعد سقوط لم يُروَ؟ نفتح الباب لتأمل رمزي تحليلي في احتمال حضاري لا يُناقَش كثيرًا: أن عقولًا سبقتنا قد تكون بلغت من النضج والتقدّم ما يجعلها أقرب إلينا مما نتصور - أو حتى أرقى -…

محمد الإنسان.. حين تسبق السيرة الرسالة

في قلب الظلمة التي غطّت الأرض قبل البعثة، بزغ نور لم يكن كغيره من الأنوار، نور تمهّد له القدر منذ سنين قبل أن يولد حامله. لم يكن محمد بن عبد الله نبيًا فقط، بل كان الإنسان الذي هيّأته الحياة، والكون، والنسب، والناس ليحمل الرسالة. سكنت فيه الملامح التي يعرفها قومه: الصدق، الأمانة، والنسب الطاهر، فكان معروفًا قبل أن يُبعث، مؤتمنًا قبل أن يُرسل. لم يحتج أن يثبت شرفه ولا نسبه، فقد شهد له أعداؤه قبل أصحابه. وهذه ليست سيرة، بل قراءة في التكوين الإنساني لرسول مهّد له التاريخ قبل أن يمهّد هو للبشرية ط…

المتنبي: حين يصنع الشعر فارسًا لا يحمل سيفًا: قراءة نقدية في الأسطورة

تُروى قصة مقتل المتنبي كأنها حكمة خالدة: "قتيلُ شعره"، لكنها أقرب للأسطورة منها للحقيقة. فهل يُقتل الإنسان حقًا لأنه شاعر؟ أم أن خلف القصيدة حكاية أكثر واقعية وأقل شاعرية؟ المتنبي لم يكن فارس سيف، بل فارس مدح وهجاء، يتنقل بين بلاطات الملوك وطموحه يلبس أقنعة البلاغة. وما يبدو مجدًا شعريًا، قد يخفي في ظله صراعًا شخصيًا انتهى بكمين وموت. ليست المشكلة في المتنبي، بل في الصورة التي صنعناها له. وليست التهمة أن يُقال عنه شاعر فذ، بل أن يُقدَّم لنا كفارسٍ لا يُشق له غبار، وهو لم يخض يومًا مع…

الولاء والبراء: المفهوم العقدي الذي لا يسبقه توجه

يُعدّ مفهوم الولاء والبراء من المفاهيم المركزية في بنية العقيدة الإسلامية، لا بوصفه مسألة فرعية أو سلوكًا خُلقيًا، بل باعتباره انعكاسًا مباشرًا لانتماء الإنسان إلى التوحيد . فهو ليس ترفًا فكريًا، ولا ناتجًا عن ظرفٍ سياسي، بل جزء من التصور الكلّي الذي يحدد معالم العلاقة بين المؤمن وغيره، على أساسٍ من الوحي لا من المزاج أو المصلحة . تاريخيًا، مثّل الولاء والبراء معيارًا يُفصل به بين الانتماء الحقيقي والانتماء الصوري، وهو ما يجعل هذا المفهوم سابقًا لكل تصنيف حزبي أو اجتهاد سياسي.

من هو المثقف؟ ومن هو المفكر؟

تفكيك الالتباس في الخطاب الإعلامي في عالم يتداخل فيه الإعلام بالخطاب الثقافي، تتداخل المفاهيم وتتآكل الحدود بين الأدوار. وبينما يُستدعى "المثقف" إلى الشاشة ليُحلل، ويُستدعى "المفكر" ليُعلّق، تُصاغ العقول بما يُقال عنهم أكثر مما يقولونه هم. غير أن الفرق بين المثقف والمفكر ليس مجرد فارق لغوي، بل هو علامة على البنية العميقة لصناعة الوعي في الفضاء الإعلامي. فمن هو المثقف في اللغة الإعلامية؟ ومن هو المفكر؟ وكيف يُوظَّف كلٌّ منهما في تشكيل الرأي العام؟

من أنا؟ ولماذا لست غيري؟

تأمل في سرّ الوعي وتفرد الذات من بين كل الأسئلة التي قد تتزاحم في الذهن، يبقى سؤال واحد يتسلّل بهدوء إلى عمق الوجود دون أن نجد له مدخلًا أو مخرجًا: لماذا أنا هو أنا؟ ولماذا يبدو الآخرون... آخرين؟ إنه سؤال لا يتعلق بالاسم، ولا بالجسد، ولا بالذاكرة. بل يتعلق بالوعي ذاته: هذا الشعور الداخلي الذي أعيشه ولا يستطيع أحد غيري أن يختبره من الداخل. فكيف أكون "أنا"؟ ولماذا أوجد داخل هذا الكيان بالذات، لا سواه؟

كيف خلف المسلمون الروم والفرس معًا؟

قراءة في التحوّل التاريخي من القوة إلى الفكرة في زمنٍ كانت فيه الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية تتقاسمان العالم المعروف، بزخمه العسكري وأساطيره الثقافية، خرجت من جزيرة العرب دعوةٌ بسيطة لا تملك جيشًا ولا ملكًا، لكنها كانت تحمل مشروعًا يفوق الطموحات الأرضية جميعها. وبعد أقل من قرن، سقطت أعتى عروش الأرض تحت أقدام جيلٍ جديد، لم يكن هدفه الغزو بقدر ما كان يحمل يقينًا بأنه يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فكيف استطاع المسلمون أن يُخلفوا الروم والفرس معًا؟

العنوان: كيف خَلَف الرومان الإغريق؟ – انتقال القيادة الحضارية من أثينا إلى روما

حين نقرأ تاريخ الحضارات، لا نجد انتقالًا فجائيًا في القيادة الفكرية والثقافية، بل سلسلة من التحولات المعقدة. هذا ما نراه جليًا في العلاقة بين اليونان القديمة وروما. فبعد أن كانت اليونان مهداً للفلسفة والفن والديمقراطية، انتقلت زمام الحضارة تدريجيًا إلى روما التي ورثت المجد السياسي والعسكري، لكنها لم تسعَ لإقصاء الإغريق بقدر ما استعارت منهم جوهر العقل. كيف حدث هذا الانتقال؟ وكيف غزت أثينا روما بعد أن غلبتها في ميادين الفكر؟ هذا ما سنستعرضه في هذا المقال.

تحميل المزيد
لم يتم العثور على أي نتائج
🏠