
ليست أمريكا مجرد دولة صعدت إلى القمة بعد انهيار منافسيها، بل هي وريثة شرعية لإمبراطورية غربية سابقة صاغت قواعد السيطرة، ورسمت خرائط النفوذ، وبنت أسس "النظام العالمي". الحديث هنا عن الإمبراطورية البريطانية، التي لم تسقط فعليًا، بل أعادت ترتيب هيكلها تحت راية جديدة
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي لحظة انكسار بريطانيا كقوة عالمية، ورثت الولايات المتحدة الهيمنة دون أن ترث العبء الاستعماري المباشر. تغيرت الواجهة، وبقي الجوهر: الهيمنة، ولكن بوسائل أذكى.
من الاحتلال المباشر إلى النفوذ غير المعلن
في الماضي، كانت الإمبراطوريات تحتل الأرض وترفع أعلامها. أما في الحاضر، فقد أصبحت الهيمنة أكثر نعومة، لكنها أكثر تغلغلًا.
- بريطانيا حكمت العالم بجيوشها وأساطيلها.
- أما أمريكا، فتحكم العالم اليوم بالدولار، والمؤسسات، والسرديات الإعلامية.
التحول كان شكليًا، أما العقلية فواحدة: مركزية الحضارة الغربية، وحقّها في قيادة العالم وفق ما ترى أنه "صالح البشرية".
اللغة: من أداة استعمار إلى وسيلة استيعاب
الإنجليزية، التي نشرتها بريطانيا بالسيف، ورثتها أمريكا بالسوق. أصبحت اللغة الرسمية للتكنولوجيا، والدبلوماسية، والأعمال، والتعليم العالي، بل وحتى للخطاب الحقوقي العالمي.
لم تعد اللغة تُفرض من الخارج، بل يُقبل عليها الداخلون طوعًا، باحثين عن "فرصة"، أو "تطور"، أو "انفتاح". هذه هي الذكاء الإمبراطوري الجديد: أن تجعلك تطلب أدوات استعبادك بنفسك.
السردية الأخلاقية: من "عبء الرجل الأبيض" إلى "مهمة أمريكا الديمقراطية"
كان البريطاني يبرر غزوه للدول بأنه ينشر "الحضارة" و"التمدن". واليوم، تستخدم أمريكا ذات الخطاب، لكنها غيّرت القاموس:
- الاستعمار أصبح "تدخلاً إنسانيًا"
- الاحتلال أصبح "حماية للأمن الدولي"
- الانقلابات أصبحت "انتقالاً ديمقراطيًا للسلطة"
هذه ليست فقط تغييرات لغوية، بل إعادة إنتاج لسردية السيطرة بأدوات أقنع وأذكى. واللافت أن معظم الإعلام العالمي يردّد هذه السرديات وكأنها حقائق مطلقة.
المؤسسات الدولية: هندسة السيطرة في قالب قانوني
حين أسّست بريطانيا منظومة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تحاول إدارة العالم بمنطق المنتصر. وبعد الحرب الثانية، أعادت أمريكا إنتاج الفكرة نفسها بشكل أكثر إحكامًا:
- الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية...
- كلها مؤسسات تُقدَّم على أنها أدوات لتنظيم العالم، لكنها في الواقع تعمل وفق مصالح القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا.
الهيمنة لم تعد بحاجة لرفع الرايات فوق القصور الملكية، بل يكفي أن تُدار ميزانية بلد ما من مكتب في واشنطن.
الإعلام: السلاح الجديد للإمبراطوريات
إذا كانت بريطانيا قد هيمنت بفضل سيطرتها على البحار، فإن أمريكا تسيطر عبر موجات الأثير والشاشات.
من CNN إلى Netflix، ومن Hollywood إلى تويتر، تُنتج أمريكا صورًا للعالم، ومعايير للجمال، وأنماطًا للحياة، ومفاهيم للنجاح، ومعايير للخير والشر.
وهنا تكمن القوة الحقيقية: أن لا تفرض على الشعوب ما تريده، بل تجعلهم يريدونه بأنفسهم.
الخلاصة:
الهيمنة لم تختفِ، بل أعادت تشكيل نفسها.
وأمريكا لم تُسقِط إمبراطورية بريطانيا، بل ورثتها، وطوّرت أدواتها، وزادت كفاءتها.
إنها إمبراطورية بلا مستعمرات، بلا أعلام، بلا جيوش محتلة...
لكنها موجودة في كل شاشة، وكل مصرف، وكل اتفاقية دولية، وكل نشرة أخبار.