سقوط الأندلس (1492): حين خمدت الشعلة في الغرب واشتعلت الهيمنة المضادة

لم تكن نهاية حكم سياسي، بل انطفاءٌ لحضارة، وانكفاءٌ لرسالة، وصعودٌ لقرون من الاستعمار والانحطاط.

في العام 1492، سقطت غرناطة، آخر قلاع المسلمين في الأندلس، بيد الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، بعد حصار طويل أنهك المدينة وأهلها. ومن يومها، لم يكن الغرب كما كان، ولا الشرق كذلك. لقد كانت لحظة سقوطٍ تاريخي، فتحت أبوابًا لموجة صاعدة من الهيمنة الأوروبية، وطوت صفحة مشرقة من الإسهام الإسلامي في الحضارة.


أولًا: الحدث – ماذا جرى في 1492؟

بعد قرون من التعايش والازدهار في الأندلس، بدأت الممالك الإسبانية الكاثوليكية تتوسّع شيئًا فشيئًا على حساب الدويلات الإسلامية المتبقية. وبسقوط غرناطة، انتهى الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية رسميًا، وتم توقيع "معاهدة الاستسلام" التي كانت في ظاهرها تضمن حقوق المسلمين، لكنها كانت خدعة استراتيجية لتمهيد حملات التنصير والطرد والإبادة.


ثانيًا: الأسباب – كيف وصلنا إلى هذا الانهيار؟

  1. الانقسام الداخلي للمسلمين: تفكك الحكم بين ممالك ودويلات، وصراعات سلطوية بين العرب والبربر، بين الطوائف والمذاهب، جعل من السهل التهامها.
  2. تحالف الممالك المسيحية وتوحيد جبهتها: نجح الكاثوليك في توحيد قشتالة وأراغون، واستثمروا قوتهم العسكرية والاقتصادية لإكمال "الاسترداد".
  3. ضعف العمق الإسلامي الداعم: في ظل تراجع الخلافة العباسية ثم المملوكية، لم يعد للأندلس سند سياسي أو عسكري في المشرق.
  4. خيانة بعض القادة المحليين: كما في كل سقوط، كانت هناك خيانات داخلية وتسليم للحصون مقابل امتيازات فردية.


ثالثًا: التداعيات – كيف أثّر السقوط على مسار العالم؟

  1. نهاية التعددية الحضارية في أوروبا: طُرد المسلمون واليهود، وسادت موجة قمع ديني كاثوليكي عنيف، ألغى التنوع الذي ميّز الأندلس لقرون.
  2. بداية حملة التنصير والإبادة: بدأ عصر محاكم التفتيش، وجرى إجبار المسلمين على التنصّر، أو الطرد، أو القتل، وتحول الإسلام من ديانة مزدهرة إلى "جريمة".
  3. انطلاق مشروع الاستعمار الغربي: في نفس العام الذي سقطت فيه غرناطة، انطلق كولومبوس لاكتشاف "العالم الجديد"، بدعم من ملكي إسبانيا اللذين أنهيا "الخطر الإسلامي".
  4. نكسة نفسية حضارية للمسلمين: شكلت الأندلس نموذجًا للتعايش والريادة العلمية، وسقوطها كان نذيرًا بانكفاء حضاري طويل في العالم الإسلامي.


رابعًا: النتائج – ماذا خسر المسلمون؟ وماذا ربح الغرب؟

  1. خسارة مشروع حضاري عالمي: الأندلس لم تكن فقط إمارة، بل مختبرًا فكريًا للعلم، والفن، والطب، والتعايش، والحرية.
  2. نفي الهوية الإسلامية من أوروبا: تحوّلت أوروبا من قارة مشتركة في حضارتها إلى كيان متجانس مسيحي هوياتي منغلق، يُقصي كل ما هو "آخر".
  3. صعود المسيحية الكاثوليكية كمبرر توسعي: بدأت الكنيسة تروّج لفكرة "نشر الإيمان" كأساس لغزو الشعوب واستعمارها، من أمريكا إلى أفريقيا.
  4. إرساء خطاب التفوق الحضاري الغربي: أُعيدت كتابة التاريخ ليبدأ من النهضة الأوروبية، دون الاعتراف بأن نهضتهم استندت على تراث الأندلس المسروق أو المُهَجَّر.


خامسًا: دلالة الحدث – لماذا سقوط الأندلس ليس مجرد هزيمة؟

لأنها كانت آخر معقل للفكر الإسلامي في الغرب. لأنها مثّلت التوازن النقيض للحروب الصليبية. لأنها أبرزت القدرة الإسلامية على التفاعل والتعايش والانفتاح، وسقوطها كان إعلان نهاية مرحلة العقل والانفتاح، وبداية مرحلة التغوّل القومي والديني والاستعماري.

سقوط الأندلس هو لحظة ولادة أوروبا الحديثة، ليس من داخلها، بل من رماد حضارة أحرقتها لتولد على أنقاضها. وهو الحدث الذي حرّك عجلة القرون التالية نحو استعمار العالم الإسلامي، لا بسبب تفوق الغرب، بل بسبب غفلة المسلمين عن صيانة مكاسبهم.

أحدث أقدم
🏠