
ملامح المشروع الجديد
الممر المقترح، والذي تم الإعلان عن خطوطه العامة في قمة مجموعة العشرين عام 2023، يسعى لربط الهند بأوروبا مرورًا بالإمارات والسعودية، ثم الأردن وإسرائيل، وصولًا إلى الموانئ الأوروبية. يتضمن المشروع بنية تحتية متكاملة تشمل خطوط سكك حديدية وشبكات لوجستية حديثة، ويطمح لأن يكون بديلًا سريعًا وآمنًا لمسار قناة السويس، خاصة في ظل التوترات المتكررة في البحر الأحمر والممرات المائية المحيطة.
قناة السويس: تهديد وجودي أم فرصة للتطوير؟
قناة السويس، التي تمثل شريانًا حيويًا للتجارة العالمية منذ ما يقارب ١٥٠ عامًا، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍ استراتيجي غير مسبوق. فبينما كانت في السابق بوابة لا غنى عنها بين آسيا وأوروبا، باتت اليوم تواجه مشاريع منافسة مدعومة بتحالفات دولية وإمكانات مالية ضخمة. ومع تكرار حوادث تعطل الملاحة، وأبرزها حادثة السفينة "إيفرغيفن" عام 2021، تعززت الحاجة لمسارات بديلة أكثر تنوعًا وأقل هشاشة.
لكن هل يشكل هذا المشروع بالضرورة تهديدًا وجوديًا لقناة السويس؟ أم أنه قد يكون دافعًا لإعادة هيكلتها وتوسيع دورها لتكون مركزًا لوجستيًا أوسع من مجرد ممر مائي؟
موقع مصر: تراجع استراتيجي أم فرصة للانخراط؟
مصر، التي تعتمد بشكل كبير على عائدات قناة السويس كمصدر رئيسي للعملة الصعبة، تقف أمام لحظة مفصلية. تجاهلها في المشروع الجديد يشير إلى تحولات في التحالفات الإقليمية، خصوصًا مع إدماج إسرائيل كممر بري واستراتيجي بديل. هذا التجاهل قد لا يكون ناتجًا فقط عن التنافس الجغرافي، بل أيضًا عن اعتبارات سياسية واقتصادية تتعلق بمدى مرونة البيئة الاستثمارية، والانخراط في مشروعات متعدية للحدود على أسس متكافئة.
ومع ذلك، يمكن لمصر أن تتحول من موقع المراقب القلق إلى لاعب فاعل في هذه الترتيبات الجديدة، عبر توسيع شبكة الموانئ، وربط قناة السويس بخطوط لوجستية داخلية قادرة على تكامل الأدوار بدلًا من منافستها.
تركيا وإيران: طموحات متقاطعة مع الهند والصين
لا يقف التنافس عند مصر وحدها؛ فتركيا تسعى بدورها إلى تعزيز مشروع "الممر الأوسط" الذي يربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى وبحر قزوين وتركيا. كما أن إيران، التي تملك موقعًا حيويًا على الخليج، تروّج لممر "شمال-جنوب" بالتعاون مع روسيا والهند. تعدد هذه المشاريع يشير إلى انفتاح الأسواق الإقليمية على خيارات متنوعة، ويضع الممر الجديد في مواجهة تحديات تتعلق بالإقناع الاقتصادي، والأمان السياسي.
العامل الإسرائيلي: التطبيع كمدخل اقتصادي
من أبرز ملامح الممر الجديد هو مروره عبر إسرائيل، في تأكيد على دورها المتنامي كمحور لوجستي واستراتيجي في المنطقة. هذا الاختيار لم يكن ممكنًا لولا موجة التطبيع التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، والتي سمحت بتعاون اقتصادي يتجاوز الحساسيات السياسية السابقة. ومع تصاعد أصوات الرفض الشعبي لهذا المسار في بعض الدول، لا تزال التساؤلات قائمة حول مدى استدامة هذه الشراكات تحت ضغط الصراعات المتجددة.
خلاصة: من يملك مفاتيح التجارة، يملك المستقبل
في خضم هذا السباق الجغرافي-الاقتصادي، لا يمكن النظر إلى مشروع الممر الهندي-الخليجي-الأوروبي بمعزل عن الصراعات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة. مستقبل قناة السويس، وموقع مصر، ودور تركيا وإيران، كلها ستتحدد بقدرة كل طرف على التكيف، والتكامل، لا مجرد مقاومة التغيير.
الرهان الحقيقي اليوم ليس على خطوط السكك الحديدية أو موانئ الشحن، بل على من يستطيع أن يتحول من معبر عبور إلى مركز تأثير، ومن مجرد نقطة جغرافية إلى عقدة اقتصادية يصعب تجاوزها.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
