فروق: حلّ الحزب الكردي في تركيا: مناورة سياسية أم نهاية مرحلة؟

Tuesday, May 13, 2025

حلّ الحزب الكردي في تركيا: مناورة سياسية أم نهاية مرحلة؟

في مشهد سياسي يتّسم بالضبابية والتوترات القومية، أقدم حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) في تركيا على خطوة مفاجئة تمثّلت في حلّ نفسه طوعًا، بعد سنوات من الضغوط القضائية والتضييقات الأمنية. هذا القرار، الذي جاء في خضم محاكمات صارمة بحق قياداته، أثار تساؤلات حول دوافعه الفعلية: هل هو نتيجة ضعف سياسي وانكسار؟ أم مناورة استراتيجية لتفادي سيناريو أسوأ؟ بين الظاهر السياسي والتكتيك الخفي، يبرز هذا الحدث كمحطة مفصلية في مسيرة الحراك الكردي في تركيا.


1. القضاء كأداة سياسية
منذ سنوات، خضع حزب الشعوب الديمقراطي لسلسلة من الاتهامات الرسمية بالارتباط بحزب العمال الكردستاني (PKK)، التنظيم المصنف إرهابيًا في تركيا. هذه الاتهامات، رغم إنكار الحزب لأي علاقة تنظيمية، فتحت الباب أمام دعاوى قضائية تطالب بحظره وملاحقة المئات من قياداته. في مايو 2024، صدرت أحكام مشددة بحق رموزه، على رأسهم الزعيم السابق صلاح الدين دميرطاش، على خلفية احتجاجات كوباني عام 2014. هذه الأحكام أغلقت الباب أمام أية آمال بالتسوية، ووضعت الحزب أمام خيارين: الحظر القضائي أو الانسحاب الطوعي. فاختار المناورة.

2. مناورة سياسية لتجنب الانهيار
حلّ الحزب لم يكن إعلان فشل، بل خطوة استباقية تهدف إلى المحافظة على بنية العمل السياسي الكردي داخل تركيا. عبر نقل النشاط إلى حزب جديد (حزب المساواة والديمقراطية للشعوب – DEM)، تمكنت القيادات الكردية من تأمين استمرار التمثيل السياسي وتفادي العقوبات الجماعية التي كانت سترافق قرارًا قضائيًا بالحظر، مثل تجميد الأصول أو حظر العمل السياسي لسنوات.
هذا التكتيك، الذي ليس جديدًا على السياسة الكردية في تركيا، يعكس مرونة استراتيجية وقدرة على التحايل على الضغط المؤسسي دون الدخول في صدام مباشر مع الدولة.

3. رسائل داخلية وخارجية
الانسحاب الطوعي أرسل رسائل سياسية متعددة:

  • للداخل التركي: أن الحركة الكردية ليست بصدد التصعيد، بل تسعى إلى إعادة التموضع ضمن قواعد اللعبة السياسية، مع تجنّب التورط في دوامة الحظر والاعتقال.

  • للخارج (أوروبا والولايات المتحدة): أن هناك طرفًا سياسيًا كرديًا يحاول الالتزام بالعملية الديمقراطية رغم التضييقات، مما يعزز من صورته كضحية سياسية أكثر من كونه طرفًا متمردًا.

4. إعادة تعريف الخطاب السياسي الكردي
الانتقال إلى حزب جديد ليس فقط تكتيكًا قانونيًا، بل أيضًا فرصة لإعادة صياغة الخطاب السياسي الكردي، ليكون أكثر استيعابًا للبيئة السياسية التركية، وأقل التصاقًا بالاتهامات المرتبطة بـ PKK. الحزب الجديد يُتوقّع أن يوسع قاعدته الانتخابية عبر خطاب أكثر براغماتية وأقل حدّة، مع التركيز على قضايا العدالة والمساواة والديمقراطية، بدلًا من الشعارات القومية الصريحة.

5. استمرارية رغم التضييق
المثير في التجربة الكردية داخل تركيا هو قدرتها المتكررة على البقاء رغم موجات الحظر، من حزب الديمقراطية الشعبية (HADEP) في التسعينات، إلى حزب الشعوب الديمقراطي مؤخرًا. هذه الاستمرارية تكشف عن حراك سياسي يتجاوز الأطر الحزبية، ويُعبّر عن قضية راسخة اجتماعيًا، تزداد رسوخًا كلما تم تهميشها.


توضيح مهم: من الذي حُلّ؟ وما الفرق بين HDP وPKK؟
من المهم، خاصة لغير المتابعين للشأن التركي، التمييز بين عدة كيانات تحمل الطابع الكردي لكنها تختلف جذريًا في الأهداف والوسائل:

  • حزب الشعوب الديمقراطي (HDP): هو الحزب الذي قرر حلّ نفسه طوعًا. تأسس عام 2012، ويُعتبر الواجهة السياسية الكردية الأكثر بروزًا داخل تركيا. شارك في الانتخابات، وامتلك نوابًا في البرلمان، وكان يُمثل التيار الكردي الديمقراطي الذي يؤمن بالحل السياسي ضمن مؤسسات الدولة.

  • حزب المساواة والديمقراطية للشعوب (DEM): هو الحزب الذي استلم المشعل من HDP، ويُواصل النشاط السياسي نفسه تحت اسم جديد، في محاولة لتجنب الحظر القضائي. قياداته وقاعدته الشعبية هم امتداد لحزب HDP.

  • حزب العمال الكردستاني (PKK): تنظيم مسلح يقود حرب عصابات ضد الدولة التركية منذ الثمانينات، ومصنف كجماعة إرهابية من قبل تركيا والغرب. تتهم الدولة التركية حزب HDP بعلاقات غير مباشرة مع PKK، رغم أن HDP ينفي أي صلة تنظيمية أو عسكرية به.

هذا التفريق ضروري لفهم ما جرى: فالحزب الذي حُلّ هو كيان سياسي شرعي، يسعى للحقوق الكردية بالوسائل الديمقراطية، لكنه وقع في مرمى نيران السلطة، التي لا تفرّق كثيرًا بين الصوت السياسي والسلاح.

خاتمة:
حلّ حزب الشعوب الديمقراطي ليس نهاية لمشروع سياسي، بل بداية لمرحلة جديدة من البراغماتية الكردية في تركيا. هي لحظة "انسحاب تكتيكي" أكثر من كونها هزيمة، وقد تنجح – إذا أحسن استثمارها – في تثبيت حضور سياسي كردي ضمن الدولة التركية، رغم كل محاولات الإقصاء. لكن، يبقى الرهان الحقيقي على قدرة الحزب الجديد في إعادة كسب الثقة الشعبية وتفادي مصير سابقيه، في بيئة سياسية لا تزال تضيق ذرعًا بأي خطاب خارج المألوف القومي.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .