
لم تعد الجيوش تدخل المدن كما في الماضي، ولم تعد السفن الحربية ترسو على شواطئ الشعوب لتفرض الهيمنة باسم الإمبراطورية. لقد تغيّر شكل الاحتلال، لكنه لم يختف. فما لم تأخذه الإمبراطوريات الأوروبية بالحديد والنار، باتت تأخذه الولايات المتحدة عبر الولاء، والدولار، والشاشة. بين استعمار الأرض واستعمار الوعي، تبدّل الشكل، لكن الهدف واحد: إخضاع الشعوب ونهب ثرواتها. هذه قراءة تحليلية للفروق الجوهرية بين الاستعمار الأوروبي القديم والهيمنة الأميركية الحديثة.
الاستعمار الأوروبي: احتلال مباشر بالسلاح والوصاية
كان الاستعمار الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يقوم على الاحتلال العسكري المباشر، حيث تُرسل الجيوش وتُفرض السيطرة بالقوة، وتُقسّم الأراضي كغنائم بين القوى الكبرى. بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، والبرتغال تنافست على مد النفوذ في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، دون اعتبار لإرادة الشعوب أو هوياتهم.
الحاكم كان أجنبياً، والقوانين تُفرض من العاصمة الاستعمارية، والموارد تُنهب بشكل معلن. كانت تلك حقبة من السيطرة العنيفة المكشوفة، يصعب التمويه عنها أو تغليفها بأي خطاب إنساني.
1. من إزالة الحكام إلى صناعتهم: الولاء بدل الاحتلال
في الزمن الاستعماري القديم، كانت الإمبراطوريات تُسقط الملوك والزعماء المحليين، وتُعيّن حكّامًا من أبنائها أو ضباط جيشها. أما في زمن الهيمنة الأميركية، فلم تعد الحاجة لإزالة الحاكم، بل لصناعة حاكم موالٍ، يوقّع بيده على كل ما كانت تأخذه الإمبراطوريات بالقوة.
هؤلاء الحكام الجدد هم واجهة ناعمة لهيمنة خشنة، لا يحملون علم المحتل، لكنهم يخدمونه أكثر مما خدمه جنوده.
2. نهب الثروات باسم الاستثمار: توقيعات بديلة عن المدافع
الاستعمار القديم كان يُحمّل البواخر بالذهب والبن والقطن. أما الاستعمار الحديث فينهب البترول والغاز والموانئ، لكن عبر عقود موقّعة باسم "الاستثمار".
السرقة لم تتوقف، بل تطورت: بدل أن تُقصف الحقول، تُباع بأسعار مجحفة. وبدل أن تُسرق الثروات بالقوة، تُمنح بموجب اتفاقيات يوقّعها من يفترض أنهم "ممثلو الشعب".
3. القمع بأيدٍ محلية: الجيوش التي تخدم الخارج
الاستعمار الأوروبي كان يفرض سلطته بجنوده، أما اليوم فالهيمنة الأميركية لا تحتاج لجندي واحد على الأرض.
الأنظمة المحلية، التي ترعاها واشنطن، تمتلك أدوات القمع الكاملة: من الجيش، إلى الشرطة، إلى القضاء. والعدو ليس المحتل هذه المرة، بل الشعب الذي يطالب بالسيادة.
إنه استعمار داخلي بأدوات خارجية.
4. السيطرة على الإعلام: الشاشة أهم من البندقية
إذا كانت المدافع الأوروبية قد أسقطت الحصون، فإن شاشات الإعلام الأميركي تُسقط الإرادة.
في ظل السيطرة الأميركية على كبريات الشبكات والمنصات، يتم تشكيل وعي الجماهير، وتحديد ما هو "عدو"، وما هو "صديق"، ومن يستحق الغضب، ومن يجب تجاهله.
إنه غزو ناعم، يجعل الشعوب تُصفّق لمن ينهبها، وتهاجم من يُطالب بحقها.
5. الاقتصاد العالمي في قبضة واشنطن: الدولار كسلاح احتلال
خلال الاستعمار القديم، كانت العملة مجرد أداة تبادل. أما اليوم، فالدولار أصبح سلاحًا استراتيجيًا بيد واشنطن.
من خلال التحكم في نظام "سويفت"، والبنك الدولي، وصندوق النقد، تفرض الولايات المتحدة شروطها على الدول، وتمنح أو تمنع القروض بحسب الولاء.
إنه احتلال غير مرئي، يُديره موظفون ومصرفيون بدل الجنرالات.
6. التجارة في خدمة النفوذ: من الأسواق إلى السيطرة
في زمن الاستعمار، كانت الأسواق تُفتح بالقوة. واليوم، تُفتح بالقوانين والاتفاقيات التي تصب في مصلحة الشركات الغربية.
الهيمنة على سلاسل الإمداد، واحتكار التقنية، وربط الاقتصادات المحلية بالأسواق العالمية عبر مراكز القرار في الغرب، جعل من كل عملية استيراد أو تصدير أداة ضغط سياسية.
خاتمة: الهيمنة حين تتخفّى في ثوب الشراكة
لقد تحوّل العالم من زمن الاستعمار العسكري إلى زمن الهيمنة الشاملة: السياسية، الاقتصادية، الإعلامية، والثقافية.
وإذا كان الاستعمار القديم يُقابل بالمقاومة المسلحة، فإن الهيمنة الأميركية تواجه غالبًا بالصمت أو التواطؤ، لأنها لا تُعلن عن نفسها مباشرة، بل تتخفّى خلف حكومات محلية ونُخب تبرّر، تُوقّع، وتقمع باسم "الوطن".
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
