
الفرق بين المعنى السياسي الدقيق لمفهوم “الدولة العميقة” بوصفه بنية مؤسساتية ظل تعمل بمعزل عن القرار الديمقراطي، وبين الطريقة التي يوظف بها الخطاب الإعلامي هذا المفهوم لصناعة “عدو خفي” دائم، يُحمّل تبعات الأزمات، ويُبقي السلطة بمنأى عن النقد أو المحاسبة.
“الدولة العميقة” كمفهوم سياسي: النشأة والسياق
ظهر مصطلح "الدولة العميقة" (Deep State) في البداية لوصف شبكات النفوذ غير الرسمية في النظام التركي خلال القرن العشرين، حيث كانت مجموعة من الأجهزة الأمنية، والقضاء، والمؤسسات العسكرية، إضافة إلى تحالفات اقتصادية، تعمل بشكل موازٍ للسلطة المنتخبة وتعيقها حينما تهدد مصالح تلك الشبكات.
المفهوم هنا ليس مجرد سردية مؤامرة، بل توصيف لبنية متماسكة، لها امتدادات داخل مؤسسات الدولة، وتُحافظ على مصالحها حتى في فترات الانتقال السياسي. وقد وجدت أشكال مختلفة من "الدولة العميقة" في دول مثل مصر، إيران، باكستان، وحتى في بعض الديمقراطيات الغربية مثل الولايات المتحدة، حيث تُستخدم أحيانًا للإشارة إلى مقاومة بيروقراطية لسياسات بعض الرؤساء.
من البنية المؤسسية إلى “العدو الخفي”: الانحراف في الاستخدام
بمرور الوقت، انزلق استخدام المفهوم من تحليله كبنية سلطوية واقعية إلى جعله عنصرًا من عناصر خطاب التبرير، إذ أصبح أداة سهلة لتفسير أي فشل حكومي أو تعثر سياسي.
في الخطاب الإعلامي السلطوي، تُستحضر “الدولة العميقة” كقوة خفية تُعيق التغيير، وتُسرب المعلومات، وتُشعل الأزمات، دون تقديم أدلة واضحة على وجودها أو تحديد طبيعتها. يتحول المفهوم إلى "شبح" لا يمكن الإمساك به، يُستخدم لتأجيل الإصلاح، أو التنصل من المسؤولية، أو التشكيك في المعارضين ووسمهم بأنهم أدوات لها.
استراتيجية البقاء عبر “صناعة المؤامرة”
توظيف "الدولة العميقة" ليس فقط لغرض التبرير، بل أيضًا كأداة لاستمرار السيطرة؛ إذ تُمكّن هذه السردية السلطة من تشكيل وعي عام يقوم على الشك والتوجس من كل من ينتقد النظام، وتُضفي على السلطة نفسها صفة "الضحية المحاصَرة"، التي تُقاتل في الظل قوى غامضة.
كما أنها تُسهم في إعادة هندسة العلاقة بين الحاكم والشعب، حيث يُعاد إنتاج صورة الزعيم كمخلّص يقف في مواجهة قوى خارقة تحاول إفشاله، وهو ما يعزز الحاجة إلى “القائد القوي” ويبرر المزيد من القمع والاستثناءات الدستورية.
بين الفهم الواقعي والاستخدام المضلل
التمييز بين "الدولة العميقة" كواقع سياسي معقّد، وبين الاستخدام الشعبوي لها، ضروري لفهم طبيعة النظم السلطوية الحديثة. فبينما تحتاج المجتمعات إلى وعي نقدي بمراكز النفوذ غير الظاهرة، فإن استسهال الخطاب التآمري يؤدي إلى تغييب المسؤولية، وإفراغ السياسة من محتواها، وتحويل المواطنين إلى جمهور خائف لا يرى سوى ما يُراد له أن يراه.
خاتمة
ليست كل إشارة إلى "الدولة العميقة" نوعًا من الوهم أو التبرير، لكنها أيضًا ليست تبريرًا جاهزًا لأي فشل أو احتجاج. الخطورة لا تكمن في المصطلح بحد ذاته، بل في الطريقة التي يُوظف بها. وبين دولة تئن من فساد المؤسسات غير المنتخبة، ودولة تختبئ وراء أشباحها، يكمن الفرق بين كشف البنية السلطوية... وصناعة الأسطورة لحماية السلطة.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
