
العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي تُعرض دائمًا في واجهة الإعلام كتحالف استراتيجي مبني على المصالح المشتركة، من "أمن المنطقة" إلى "الاستقرار العالمي". لكن خلف هذه العبارات الرسمية، تتكشف شبكة معقدة من التفاهمات السرية، والصفقات غير المُعلنة، والتنسيقات التي لا تُكتب في نصوص الاتفاقيات العلنية. هذه العلاقة لا تُفهم حقًا من خلال ما يُصرّح به، بل من خلال ما لا يُقال.
شراكة أم تبعية مشروطة؟
منذ منتصف القرن العشرين، برز الخليج العربي كمصدر أساسي للنفط، ومعه أصبحت الولايات المتحدة راعية لأمن هذه المنطقة، خصوصًا بعد انسحاب بريطانيا في السبعينات. لكن هذه "الرعاية" لم تكن بدون ثمن. فبينما تُصوَّر العلاقة كشراكة، إلا أن الواقع يُظهر تبعية أمنية وتقنية لدول الخليج، تُقابلها حماية أمريكية للنظم السياسية، ومصالح اقتصادية ضخمة لواشنطن.
الاتفاقيات التي تُعلن في المؤتمرات الصحفية – الدفاع، التعاون، التدريب العسكري، الاستثمار – هي الغلاف الرسمي فقط، أما الجوهر الفعلي فيدور غالبًا خلف الأبواب المغلقة.
الازدواجية في الخطاب: ما يُقال وما يُفعل
الولايات المتحدة تُعلن دائمًا دعمها لـ"الديمقراطية وحقوق الإنسان"، لكنها في ذات الوقت تُبرم أكبر صفقات السلاح مع أنظمة استبدادية، وتتجاهل انتهاكات موثقة. هذه الازدواجية ليست مجرد تناقض أخلاقي، بل جزء من استراتيجية توازن مصالح: خطاب موجه للرأي العام الغربي، وواقع يخدم مصالح الشركات والجيش الأمريكي.
مثال واضح هو موقف واشنطن من قمع احتجاجات الربيع العربي في الخليج، إذ التزمت الصمت أو بررت التدخلات الأمنية، بينما كانت تنتقد أنظمة أخرى في المنطقة ذاتها.
أمثلة تاريخية: عندما تصرخ الوثائق بما يُخفى
-
القواعد الأمريكية في الخليج: معظم دول الخليج تستضيف قواعد أمريكية ضخمة، من دون وجود تفاصيل علنية دقيقة عن شروط هذه القواعد أو ما يُخزَّن فيها من سلاح. هذه التفاهمات تتم عبر ملاحق غير منشورة أو مذكرات تفاهم شفوية.
-
تسريبات ويكيليكس: وثائق مسربة أظهرت وجود تواصل خليجي مباشر مع إسرائيل عبر قنوات أمريكية، قبل الإعلان عن التطبيع بسنوات، وهو ما لم يكن ظاهرًا في الخطاب الرسمي.
-
الضغط الأمريكي في تسعير النفط: عدة تقارير أشارت إلى أن واشنطن مارست ضغوطًا مباشرة على السعودية لإغراق السوق بالنفط في فترات محددة (مثل الثمانينات والحرب على روسيا)، دون أن يظهر ذلك في أي اتفاق معلن.
الاتفاقيات كأداة للتمويه
الاتفاقيات المعلنة غالبًا ما تكون أداة سياسية لتمرير ما هو غير مُعلن. فحينما تُعلن صفقة "دفاعية"، قد تكون في الحقيقة مقابل تنازلات اقتصادية أو أمنية لا يُكشف عنها. يستخدم الطرفان – الأمريكي والخليجي – هذه النصوص كواجهة: واشنطن لتُرضي ناخبيها وتحافظ على صورة القوة الأخلاقية، والخليج ليظهر كشريك دولي له وزنه.
لماذا يرضى الطرف الخليجي؟
دول الخليج، في ظل هشاشة داخلية وتحديات إقليمية، تجد في هذه التفاهمات ضمانًا لاستمرار الأنظمة واستقرار الحكم. كما أن غموض الاتفاقيات يمنحها مساحة للتحرك داخليًا دون التزامات سياسية مُعلنة تُثير الحساسيات المجتمعية أو النخبوية.
هل يمكن تغيير هذا النمط من العلاقة؟
التحدي الأكبر أمام دول الخليج هو في تجاوز نموذج الاعتماد الاستراتيجي الكامل على واشنطن، وبناء قدرة تفاوضية مستقلة، أو تنويع الشركاء الدوليين. لكن هذا يتطلب بنى سياسية أكثر استقرارًا، ومؤسسات أقوى، وتحولات في الرؤية النخبوية، وهو ما لا يبدو قريبًا في المدى المنظور.
خلاصة
العلاقة بين أمريكا ودول الخليج هي أكثر تعقيدًا مما تظهر عليه في البيانات الرسمية. الاتفاقيات لا تعكس دائمًا الواقع، بل تُستخدم أحيانًا كأدوات لتجميل التفاهمات غير المُعلنة. وهذه الازدواجية ليست استثناء، بل جزء من البنية العميقة للسياسة الدولية، حيث لا يُقال كل شيء، ولا يُكتب كل ما يُنفذ.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
