منذ نهاية الحرب الباردة، انفردت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بقيادة النظام الدولي، مؤسسين لهيمنة سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة. لكن في العقدين الأخيرين، بدأت ملامح تحالف شرقي تتشكل، يضم قوى كبرى مثل الصين وروسيا، مدعومًا بامتدادات آسيوية وشرق أوسطية ولاتينية، في محاولة لإعادة التوازن إلى النظام الدولي.. فهل نحن أمام صعود نظام متعدد الأقطاب يقوّض احتكار الغرب للقرار العالمي؟ أم أنها مجرد تحركات ظرفية لن تصمد أمام سطوة المؤسسات الغربية؟
جذور التشكل: تراكم السخط من الهيمنة
نشأت فكرة "التحالف الشرقي" كتعبير عن رفضٍ متنامٍ للسياسات الغربية، التي اتُّهمت طويلاً بالانتقائية والتدخل المصلحي في شؤون الدول. فمنذ غزو العراق، والعقوبات المفروضة على إيران، إلى الحروب الاقتصادية ضد الصين، تشكّل وعيٌ جمعي لدى دول الشرق بأن النظام العالمي يخدم مصالح نخبوية غربية، ويجب تغييره أو موازنته.
الصين وروسيا: نواة التكتل الجديد
تمثل الصين وروسيا العمود الفقري لهذا التحالف:
- الصين تقدم نموذجًا اقتصاديًا بديلًا، قائمًا على المبادرة التجارية (الحزام والطريق) والتمدد التكنولوجي، مع سياسات خارجية براغماتية ترفض التدخل العسكري المباشر.
- روسيا تتحرك عسكريًا لكسر الهيمنة الغربية، كما في أوكرانيا وسوريا، وتستخدم قوتها في الطاقة والدفاع لتعزيز نفوذها في آسيا وأفريقيا.
ورغم اختلاف طبيعة القوتين، إلا أن العدو المشترك: الهيمنة الأمريكية، جعل مصالحهما تلتقي على تعزيز عالم متعدد الأقطاب.
منظمة شنغهاي والبريكس: مؤسسات ما بعد الغرب
أصبحت منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس منصتين أساسيتين لتنسيق الجهود بين الدول الشرقية:
- شنغهاي تجمع الصين وروسيا والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى، وتُعد منصة أمنية وسياسية لمحاصرة التمدد الغربي في أوراسيا.
- البريكس توسعت لتضم السعودية، الإمارات، مصر، إيران وغيرها، في خطوة رمزية قوية لإعادة تشكيل المعادلة الاقتصادية العالمية، خصوصًا في ما يتعلق بالدولار ومؤسسات التمويل الغربية.
الدول الإسلامية والعربية: تقارب محسوب مع الشرق
برزت في السنوات الأخيرة عدة دول عربية وإسلامية كفاعلين استراتيجيين ضمن هذا التوجه الشرقي، لأسباب تتعلق بالاستقلالية السياسية، والتحرر من الضغوط الغربية، والتنويع الاقتصادي والأمني. ومن أبرز هذه الدول:
1. تركيا: لاعب مستقل يبحث عن توازن قوى
رغم عضويتها في الناتو، تتقارب تركيا بشكل لافت مع روسيا والصين، خصوصًا في الملفات الإقليمية (سوريا، أذربيجان، ليبيا).
أسباب انضمامها غير الرسمي:
- رغبتها في تعزيز موقعها كقوة إقليمية مستقلة.
- الاستفادة من التبادل التجاري الكبير مع الصين.
- التعاون الدفاعي مع روسيا (مثل صفقة S-400).
- الخلافات المتكررة مع الغرب حول ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
2. الجزائر: عودة لمعادلة عدم الانحياز
الجزائر تُعد من أكثر الدول العربية قربًا من المعسكر الشرقي، بتعاون عسكري عميق مع روسيا، وانفتاح اقتصادي على الصين.
أسباب موقفها:
- الإرث التاريخي المناهض للاستعمار.
- تقاطع الرؤية مع روسيا في دعم حركات التحرر.
- تعزيز شراكات الطاقة بعيدًا عن هيمنة أوروبا.
- سعيها للعب دور أفريقي-متوسطي مستقل.
3. إيران: شريك عسكري واستراتيجي للمحور الشرقي
إيران كانت منذ سنوات أحد أركان هذا التوجه، من خلال شراكات عسكرية مع روسيا، وتحالفات اقتصادية مع الصين (اتفاق الـ25 سنة).
دوافعها:
- الحصار الغربي الدائم.
- سعيها لكسر العزلة الدولية.
- توافقها مع سياسات روسيا والصين في رفض الهيمنة الأمريكية.
4. السعودية والإمارات ومصر: تقارب اقتصادي أكثر من سياسي
دخلت هذه الدول مؤخرًا في مجموعة البريكس، في خطوة تمثل رسالة سياسية واقتصادية للغرب.
الهدف: تنويع الشركاء الاستراتيجيين دون القطيعة مع الولايات المتحدة.
لكن تحركاتها تبقى محسوبة، ورهينة التوازن الدقيق بين مصالحها الغربية والشرقية.
نقاط القوة والضعف في التحالف الشرقي
نقاط القوة:
- تنوع الموارد: طاقة (روسيا، إيران، الجزائر، السعودية)، تصنيع (الصين، تركيا، الهند)، أسواق ضخمة.
- التقاء مصالح سياسية واقتصادية ضد الغطرسة الغربية.
- تشكل مؤسسات بديلة لمؤسسات بريتون وودز.
نقاط الضعف:
- تضارب في الأجندات بين الأعضاء (مثل تركيا وإيران، أو الصين والهند).
- غياب أيديولوجيا جامعة.
- ضعف التأثير الإعلامي.
- الارتباط الجزئي بالاقتصاد الغربي، خصوصًا في الخليج وتركيا.
المستقبل: من المواجهة إلى التوازن؟
التحالف الشرقي ليس بالضرورة جبهة صلبة موجهة لإسقاط الغرب، بل هو تعبير عن انزياح تدريجي نحو عالم متعدد الأقطاب.
النجاح في خلق توازن حقيقي سيعتمد على:
- قدرة التحالف على التنسيق دون أن يُشل بالخلافات.
- تطوير بدائل فعالة للمؤسسات المالية الغربية.
- الحفاظ على علاقات متوازنة مع الشركاء التقليديين دون الانجرار لصدام مباشر.
خاتمة
ما نراه اليوم ليس مجرد تحالف لحظي، بل إعادة تشكيل عميقة للنظام العالمي، تقودها دول ترى أن مصالحها لا تُحترم في ظل الهيمنة الغربية.
صعود تركيا والجزائر وإيران، وتحوّل دول الخليج إلى لاعب متعدد الخيارات، يشير إلى أن العالم الإسلامي والعربي لن يكون بعد اليوم تابعًا، بل أحد اللاعبين في لعبة التوازن الجديدة.
لكن يبقى السؤال: هل يستطيع هذا التكتل الاستمرار كتحالف استراتيجي مستقر؟ أم أنه مجرد تقاطع مؤقت في وجه خصم مشترك؟
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
