
لكن هذه الرواية، التي صمدت طويلاً في الإعلام الغربي والسياسات الدولية، تتهاوى اليوم أمام أعين العالم. ليس لأن التاريخ تغير، بل لأن الأدلة خرجت من نطاق السيطرة. في عصر الهاتف المحمول، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتوثيق المباشر، أصبحت الضحية الحقيقية تتحدث بصورتها، لا بمن يتحدث باسمها.
حين تحكم الضحية… لا تعود ضحية
المفارقة الجوهرية في السردية الإسرائيلية أنها تسعى للاحتفاظ بموقع الضحية، بينما تُمارس سلطتها كدولة ذات جيش، وأسلحة نووية، ودعم غير مشروط من أقوى دولة في العالم.
هذه الازدواجية بين موقع القوة ومقام الضحية لم تعد مقبولة، لا على المستوى الأخلاقي، ولا على المستوى التحليلي. فكلما توسّعت إسرائيل في استخدام القوة العنيفة، خصوصًا ضد المدنيين، انكشفت الفجوة بين ما تدّعيه وما تفعله.
من الرواية إلى التوثيق: الإعلام لم يعد صديقًا مضمونًا
طوال عقود، كانت إسرائيل تتحكم بالسردية من خلال وسائل الإعلام الغربية، التي كانت تُعيد إنتاج خطاب "القلعة المحاصَرة". لكن مع ظهور وسائل الإعلام الرقمية، ومنصات الفيديو الحي، وتوثيق المجازر لحظة بلحظة، تغيّر المشهد.
لم يعد الجمهور في حاجة لتقارير من وكالات كبرى؛ يكفيه أن يرى أمًّا تصرخ فوق جثة طفلها، أو طبيبًا يجري عملية على الأرض في مستشفى مقصوف، حتى تنهار أمامه كل الروايات "الرسمية".
المشهد أقوى من البيان، والصورة باتت تحاكم القاتل دون الحاجة لمحامٍ.
جرائم لا تموت بالتبرير: الكاميرا أقوى من الخطاب
محاولات إسرائيل لتبرير استهداف المدارس، والمستشفيات، والمخيمات، لم تصمد أمام سيل التوثيق الشعبي.
فحين يظهر جنود يضحكون فوق جثث، أو يقصفون بيتًا أثناء وجود الأطفال فيه، أو يُجبرون المدنيين على الخروج تحت القصف، فإن العالم يرى الحقيقة مجردة من الزخرفة.
هذه التوثيقات، التي كانت نادرة في السابق، أصبحت اليوم صوتًا دوليًا موازٍ للديبلوماسية، وتُحرج حتى الحلفاء التقليديين لإسرائيل.
تآكل الشرعية الأخلاقية: حين يتفوّق الفلسطيني أخلاقيًا
إسرائيل فقدت ما يمكن تسميته بـ"الشرعية الأخلاقية"، التي كانت ترتكز على ميراث الهولوكوست.
فحين يُقارن العالم بين الضحية التي تبني حياتها تحت القصف، والمعتدي الذي يبرر القتل تحت ذريعة الدفاع عن النفس، تتغير موازين الأخلاق.
الفلسطيني في غزة، الأعزل، المُحاصَر، الجريح، أصبح يمثل الضمير الإنساني العالمي، بينما تحوّلت إسرائيل من ضحية تاريخية إلى قوة احتلال عنيفة ذات سجل موثق.
التراكم لا يُمحى: الذاكرة الرقمية أقوى من النسيان السياسي
ربما كانت إسرائيل تراهن على "النسيان السياسي" كما اعتادت في الماضي، لكننا نعيش في زمن تتراكم فيه الأدلة، ويصعب مسحها.
الصور، الشهادات، المقاطع، جميعها محفوظة، ويتم مشاركتها يوميًا بملايين المشاهدات.
هذا التراكم يشكل محكمة رأي عام عالمية دائمة، لا تُغلق أبوابها، ولا تُسكت شهودها، ولا تتحكم فيها وزارة خارجية.
في الختام:
من "الضحية الدائمة" إلى "الجاني الموثَّق"
انهيار سردية الضحية ليس مجرد تحول في الرأي العام، بل هو انكشاف لبنية خطابية قامت على إخفاء الفعل خلف الذكرى.
اليوم، الذاكرة لا تكفي لتبرير الحاضر، والحصانة الأخلاقية القديمة لم تعد درعًا لجرائم اليوم.
لقد بدأ العالم يُدرك:
"الذي يملك الطائرات لا يملك الحق في ادعاء الخوف من الأطفال".
إنها نهاية سردية... وبداية حساب.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
