فروق: من طيبة الطيبة إلى إسطنبول... حين كان القطار يوصل القلوب قبل المدن

Thursday, May 15, 2025

من طيبة الطيبة إلى إسطنبول... حين كان القطار يوصل القلوب قبل المدن

في صباح صافٍ من المدينة المنورة، حيث تفوح رائحة الطِّيب النبوي ويهتف المؤذن بنداء الفجر من مأذنة الحرم، توجهتُ نحو محطة القطار. لم أكن أحمل جوازًا، ولا ختمًا، فقط تذكرة بخط عثماني مزخرف، وخريطة محفورة في ذاكرتي لدولة واحدة تتسع للأمل.

كانت الرحلة تبدأ من مهبط الوحي، وتسير شمالًا، كأنها تشق دربًا نحو شريان الأمة، نحو إسطنبول، لا كعاصمة فقط، بل كقلب نابض لهذه الأمة الممتدة.


القطار الحجازي: حديدٌ يوصل ما فرقته الرمال
دُقّت المسامير على سكة الحجاز قبل أعوام، لا لتربط المدن فقط، بل لتوحّد الأمة. في مقصورتي، جلس إلى جواري رجل من الشام، وآخر من قونية، وآخر من مصر، وكلنا في قطار واحد، وراية واحدة، ودعاء واحد: "اللهم يسّر لنا الرحلة، واحفظ هذه الدولة من كل مكر."

تبوك: محطة في قلب الصحراء
مررنا بتبوك، ولم تكن سوى واحة استراحة في الصحراء، لكن المحطة كانت منظمة، والعسكر يؤدون مهامهم بدقة. الماء متوفر، والطعام يأتي من عربات الخدمة. لم نشعر أننا في أطراف الدولة، بل كأننا في مركزها.

معان والشام: بوابة الخصب بعد الرماد
دخلنا بلاد الشام فجرًا، وكان النسيم مختلفًا، مائلًا إلى البرودة، كأنه يحمل بركة أرض الأنبياء. توقف القطار في دمشق، وكانت المحطة تعج بالمسافرين من بيروت وحمص واللاذقية، كلهم صاعدون إلى إسطنبول، أو عائدون منها.

حماة ثم حلب: مدنٌ من نور وحجارة
من نافذة القطار، رأيت نواعير حماة تدور بهدوء، وكأنها تعيد الزمن إلى الوراء. وفي حلب، كانت الأسواق قريبة من المحطة، فابتعنا من صابون الغار وأرسلنا برقيات لأهلنا من مكتب البريد المجاور.

عبر الأناضول: مدن متوالية مثل خرز مسبحة
القطار يشق جبال الأناضول، ونرى القرى التركية تتناثر كأنها حروف في دعاء طويل. محطات مثل قونية وقيصري وأنقرة، لم تكن مجرد أسماء، بل محطات من تاريخ واحد، وشعب متنوع متآلف.

إسطنبول: الوصول إلى القلب
عند الغروب، دخلنا إسطنبول. المآذن تلوح من بعيد، والقطار يمر فوق مضيق البوسفور على جسرٍ حديث الصنع. لم نسأل عن الحدود، ولا عن الجمارك، ولا عن التأشيرة. دخلنا كما يدخل الابن بيت أهله.


كانت رحلة بالقطار، نعم، لكنها كانت أيضًا رحلة في فكرة عظيمة. أن تسير من المدينة إلى إسطنبول دون أن تُعامل كغريب، دون أن تُسأل عن قوميتك، دون أن يُنظر إلى ملامح وجهك، بل فقط كأحد أبناء هذه الأمة الواحدة... فتلك نعمة كانت، وذكرى أصبحت، وحلمٌ نأمل أن يعود .. ويعود القطار.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .