فروق: بين الداخل المهزوم والخارج المتعالي: تناقض يولّد العدوان

Thursday, May 15, 2025

بين الداخل المهزوم والخارج المتعالي: تناقض يولّد العدوان

في زمن تتكاثر فيه الصور وتخفت فيه الأصوات الداخلية، تنشأ أنماط بشرية تحترف التمثيل النفسي كوسيلة للبقاء. من بين هذه الأنماط، يبرز إنسان هشّ من الداخل، مهزوم في صمته، يتقن ارتداء قناع الصلابة والغرور أمام الآخرين. ليس لأنه قوي، بل لأنه لا يحتمل أن يُرى ضعيفًا. هو شخص لا يقاتل ليعلو، بل لئلا يسقط؛ لا يتكلم بثقة لأنه واثق، بل لأنه خائف من لحظة انكشاف. بين الضعف المكبوت والتعجرف الظاهر، تتجسد مأساة هذا الإنسان الذي اختار المبالغة في الادعاء بدل مواجهة ذاته.


قناع الغرور: حماية أم اغتراب عن الذات؟

هذا الإنسان لا يُولد متعجرفًا. غالبًا ما تبدأ القصة بتجربة داخلية منكسرة: تربية قاسية، خذلان مبكر، شعور دائم بالنقص، أو إحساس بالتجاهل. في بيئة لا تسمح بالاعتراف بالضعف، يلجأ إلى خلق صورة مضادة: شخص صلب، متحدٍّ، ساخر، لا يهاب أحدًا. ولكن ما يبدو للناس غرورًا، هو في العمق بناء دفاعي، أقيمَ على أنقاض إنسان لم يجد مساحة ليكون نفسه.


كيف يعيد المجتمع إنتاج هذا التناقض؟

المجتمعات التي تمجّد "القوي الذي لا يلين" تساهم في خلق هذا النموذج المشوّه. فحين يصبح الضعف تهمة، يُجبر الفرد على إخفائه. لا أحد يحتفي بمن ينهار، بل يُكافأ من يتقن الصلابة حتى لو كانت كاذبة. وهكذا يتحوّل الداخل المهزوم إلى خارجي متعالي، وتصبح العدوانية لغة النجاة، لا نتيجة طبيعية للثقة.


تأثير هذا التناقض على العلاقات الإنسانية

هذا الإنسان، وهو يحمي هشاشته، يؤذي من حوله. يتعامل بفوقية، يقلّل من مشاعر الآخرين، يسخر من ضعفهم، ليس لأنهم أقل منه، بل لأنهم يذكّرونه بما يخفيه في نفسه. علاقاته تميل إلى السيطرة أو الانسحاب، لا يعرف الحميمية الحقيقية لأنه لم يتصالح بعد مع حقيقته. ولأن ما يُخفيه يحرمه من الارتياح، فإنه يظل دائم الدفاع، حتى في أبسط المواقف.


هل يمكن لهذا الإنسان أن يُشفى؟

نعم، ولكن لا عبر المزيد من الادعاء، بل عبر التصالح مع الكسر الأول. حين يدرك أن الضعف لا ينفي الكرامة، وأن الاعتراف بالحاجة ليس نقصًا، بل علامة نضج، تبدأ رحلته نحو التعافي. المسألة ليست في أن يتخلّى عن القوة، بل أن يبنيها على أساس صادق، لا على إنكار الذات.


الخاتمة: 

لا تُخدع بالصوت المرتفع

ليس كل من يصرخ قويًا، ولا كل من يتعالى واثقًا. أحيانًا، يكون الصخب حيلة لإخفاء الانكسار، والغرور وسيلة لحماية قلب مهدّد. بين الداخل المهزوم والخارج المتعالي، تتشكل شخصية منقسمة لا تعيش السلام إلا إذا تصالحت مع حقيقتها. وما المجتمع الواعي إلا ذاك الذي يمنح أفراده الحق في أن يكونوا بشريين، لا تماثيل خالية من الألم.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .