
لم تكن الكنيسة يومًا مجرد بناء مقدّس أو سلطة روحية منفصلة عن الحياة السياسية. عبر التاريخ، كانت علاقتها بالدولة محل شد وجذب، لكنها في أحيان كثيرة تحوّلت إلى أداة في يد السلطة، تُستخدم لتبرير قراراتها، وتثبيت هيبتها، بل وتكريس صمت الجماهير باسم الطاعة والخضوع. هذا التحوّل من وظيفة دينية إلى وظيفة سياسية لا يمثّل انحرافًا عابرًا، بل يعكس بنية عميقة تربط الدين بالسلطة حين تفقد المؤسسات الدينية استقلالها.
الكنيسة في قبضة الدولة: من التحالف إلى الخضوع
شهدت العصور الوسطى الأوروبية صراعًا مستمرًا بين الكنيسة والملوك حول من يملك "الشرعية الإلهية". وبينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تفرض سلطتها على العروش باسم الرب، سرعان ما انقلبت المعادلة مع صعود الدولة الحديثة، التي نجحت تدريجيًا في تحييد الكنيسة وتحويلها إلى ذراع من أذرع الحكم.
الكنيسة الإنجليكانية في إنجلترا مثلًا نشأت بفعل قرار ملكي، وجعلت الملك رأسًا لها. في روسيا، تحوّلت الكنيسة الأرثوذكسية إلى ذراع دعائي للقيصر، ثم لاحقًا أداة ضبط اجتماعي تحت الدولة السوفيتية. وفي ألمانيا النازية، سعت الدولة لتطويع الخطاب الديني لخدمة مشروعها القومي، من خلال كنائس رسمية تُروّج للفكر العنصري.
من المنبر إلى المنصة: رجال الدين في خدمة السلطة
حين تتماهى الكنيسة مع الدولة، تفقد وظيفتها الرقابية، وتتحول إلى مؤسسة تُسبّح بحمد الحاكم بدلًا من تذكيره بحدود الحق والعدل. يُصدر بعض القساوسة فتاوى تبرّر الحروب، وتُبارك السياسات القمعية، وتدعو إلى الصمت والخضوع تحت شعار "الطاعة للسلطة واجبة"، في تكرار للتاريخ، ولكن هذه المرة بلا هيبة ولا قداسة.
الكنيسة المقاومة: حين تكون صوت الضمير
ورغم هذا، فإن التاريخ يشهد على نماذج مضيئة حافظت فيها الكنيسة على استقلالها، ووقفت في صف الشعوب لا الحكومات. ففي أمريكا اللاتينية، قاد لاهوت التحرير حركات مقاومة ضد الديكتاتوريات. وفي بولندا الشيوعية، كانت الكنيسة الكاثوليكية ملاذًا للمعارضين، ورافعة للتحرر.
الحالة العربية: رجال دين في وظيفة سياسية
في العالم العربي، لا تختلف الصورة كثيرًا. فمعظم الأنظمة العربية تستخدم رجال الدين لتبرير سياساتها، وتطويع الخطاب الديني لصالح أمن الدولة لا قيم الدين. تُفرض خطب الجمعة بمضمون رسمي، وتُطلق فتاوى تسوّغ السكوت عن الظلم، أو تُهاجم الحريات الفكرية والسياسية باسم "الفتنة". هكذا يتحوّل رجل الدين من حامل للرسالة إلى موظف في جهاز السلطة، وينهار الجدار الفاصل بين الضمير والمصلحة.
خلاصة
عندما تفقد الكنيسة استقلالها، وتُستبدل رسالتها الروحية بوظيفة سياسية، تتحوّل من ضمير حي إلى أداة تضليل. وحين يُستبدل "قَوْل الحق" بتمجيد السلطان، فإننا لا نخسر فقط المؤسسة الدينية، بل نخسر معها بوصلتنا الأخلاقية. وبينما تتكرّر هذه الصورة في نماذج تاريخية كثيرة، فإن السؤال الحقيقي يبقى مطروحًا على الحاضر: هل يمكن للدين أن يبقى منبعًا للحق حين يُدار من داخل القصر؟
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
