فروق: من رمال الجنوب إلى مآذن إسطنبول… رحلة في ظل الدولة الواحدة

Thursday, May 15, 2025

من رمال الجنوب إلى مآذن إسطنبول… رحلة في ظل الدولة الواحدة

حين خرجتُ من البصرة صوب الشمال، كانت الشمس تميل إلى المغيب، ونسائم الخليج تحمل عبق التوابل والمراكب القادمة من الهند. لم أحتج جوازًا ولا تأشيرة، ولم أُوقف عند حاجز يسألني عن هويتي. كنتُ في أرض واحدة، ممتدة من المحيط إلى الأناضول، لا تحدّها الأسلاك ولا تقطعها الرايات.
من الكويت أو من عدن، لا فرق. الطريق واحدة، والدولة واحدة، والراية التي ترفرف في كل مدينة تحمل ذات الهلال وذات الختم السلطاني.


البصرة: بوابة الماء والنخل

أول محطاتي كانت البصرة، عامرة بعلمائها وتجارها. قضيت الليل في خان للمسافرين، وأفطرنا على تمر وزبد، بينما كان ركب الحجاج يستعد للمغادرة نحو الشام.


بغداد: قلب الدولة وروح الحضارة

دخلتها عبر باب المعظم، وكانت تعج بالحياة والعلم. نهضت المدارس، وتعالت المآذن، وسار الجنود في انتظام. كنتُ أسمع العربية والفارسية والتركية، لكن الجميع يخاطبونك كأنك من أهل الدار. في الأسواق، لا اختلاف في النقود، ولا فرق في اللهجة يمنع التفاهم.


الموصل ثم حلب: نبض الشمال العربي

مررت بالموصل، مدينة الجسور والنهر، ثم عبرت إلى حلب، حيث الحجارة القديمة تنطق بتاريخ الشام المجيد. هناك التقيت بتجار من غزة وصنعاء، يجمعهم سوق واحد وراية واحدة، وطرق قوافل آمنة تحت حُكم السلطان.


دمشق: ورد وياسمين وسرّ التوازن

في دمشق، أحسست أنني في قلب الدولة الواحدة. لم تكن فقط مدينة، بل رمزًا لوحدة الروح. فيها قضاة من مصر، وجنود من الأناضول، وأطباء من بخارى، الكل يعمل في تناغم لا تفرقه الجنسيات، لأنها لم تكن قد اختُرعت بعد.


عمّان والقدس ونابلس

الطريق نحو فلسطين كان مزدانًا بالزيتون. في القدس، صلّيت في الأقصى دون تصريح ولا بطاقة، ودون نظرات ريبة. كنتُ مسلمًا، عربيًا، مواطنًا في دولة لا تسأل عن قبيلتك ولا لونك.


أنطاكية ثم أضنة: بوابات الدخول للأناضول

كلما تقدمت شمالًا، رأيت ثمار الوحدة في الطرق المعبدة، والمحطات المنظمة، والجنود الذين يلوحون لي بالتحية السلطانية. هنا كانت العروبة والإسلام لا تتصارعان، بل تتكاملان تحت مظلة سياسية واحدة.


إسطنبول: عاصمة لا تنام

حين دخلت إسطنبول، شعرت أنني لم أغادر بلدي قط. كانت القوافل من صنعاء والرباط وبغداد تتزاحم في الميناء. وفي السوق الكبير سمعت لهجات لا تحصى، لكن الجميع يتعاملون بنفس النقد، ويحتمون بنفس القوانين، ويحجون في نفس القافلة، ويرفعون أيديهم لنفس القبلة.


لم تكن تلك الرحلة خيالًا، بل واقعًا عاشه الأجداد قبل أن تتفتت الأرض وتُحاصر الروح. كانت الخلافة أو السلطنة أو أي اسم تختاره، تعني وحدة المآذن، وحرية المسير، وأمان الطريق. واليوم، حين نحتاج عشرات الوثائق لعبور مسافة مئة كيلومتر، نتذكر كم كنّا كبارًا حين كنا معًا.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .