
في منتصف مايو 2025، حطّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب رحاله مجددًا في الخليج، في جولة رسمية شملت السعودية وقطر والإمارات. لم تكن زيارته مفاجئة، لكن ما حملته من إشارات كان أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. ترامب لم يأتِ لاكتشاف جديد، بل ليجني محاصيل زُرعت من قبل، ونضجت في مناخ إقليمي بات أكثر تقبّلًا، بل وترحيبًا، بالهيمنة الأميركية التي لم تعد تتوارى خلف شعارات الشراكة.
الخليج: الأرض التي تُثمر لواشنطن دومًا
ليست هذه الجولة استئنافًا لعهد سابق، بل استثمارًا واعيًا في واقع قائم. في هذه المنطقة، حيث تتقاطع الحاجة إلى الحماية مع الطموح الإقليمي والريادة الاقتصادية، تجد واشنطن دومًا أرضًا خصبة للنفوذ. ترامب، في نسخته الثانية، يدرك تمامًا أن الخليج لا يحتاج إلى إقناع، بل إلى إدارة تفاوضية على طريقة رجال الأعمال: ماذا ستأخذ؟ وماذا ستدفع؟
الرياض: بلا أقنعة… استثمار مقابل اصطفاف
في السعودية، حمل اللقاء بين ترامب وولي العهد محمد بن سلمان طابعًا عمليًا صارخًا. اتفاقيات دفاعية، ومذكرات تفاهم في الطاقة والتكنولوجيا والفضاء، ومشاريع بنى تحتية صحية. لم يكن الحديث عن تحالف بقدر ما كان عن توزيع أدوار: المملكة تدفع، وتلتزم بالمسار، وواشنطن تُؤمّن، وتُغطي سياسيًا. لا مداولات أيديولوجية، ولا حاجة لإخفاء شيء.
الدوحة: طائرات بوينغ… وأمن مؤمَّن
من قطر، خرج ترامب بأكبر صفقة طيران في تاريخ شركة بوينغ: أكثر من 200 طائرة، في اتفاق يُعيد تنشيط الصناعة الأميركية، ويُثبت موقع الدوحة كمركز طيران عالمي. خلف الرقم الكبير، كان هناك تثبيت للمعادلة التقليدية: قاعدة العديد، الحضور العسكري، الضمانات الأميركية. المال القطري يُصرف في المكان المضمون، والحماية تُجدد أوتوماتيكيًا.
أبوظبي: الذكاء الاصطناعي كميدان نفوذ
الإمارات بدت حريصة على أن تكون الزيارة أكثر من مجرد مناسبة دبلوماسية. عبر شراكة استراتيجية مع شركة G42، أعلن ترامب عن تأسيس أكبر مركز للذكاء الاصطناعي خارج أميركا. لم تعد العلاقة محصورة في السلاح والنفط، بل انتقلت إلى الجيل القادم من أدوات السيطرة. التقنية، التي يُفترض أن تُنتج استقلالًا، تتحول إلى أداة تكرّس التبعية.
الحماية… لكن من ماذا؟
في كل محطات الجولة، لم يغب مفهوم "الحماية". لكنه بات مُسلَّمًا به، لا يستدعي حتى التوضيح. السؤال الحقيقي لم يعد: "هل تحتاج دول الخليج إلى حماية؟" بل: "من ماذا؟"
- هل من إيران، التي يجري التفاوض معها في الخفاء؟
- أم من الصين وروسيا، اللتين تتقدمان بثبات في الاقتصاد والسلاح؟
- أم من داخل هش، تتحسّب أنظمته من أي خلل في منظومة الدعم الخارجي؟
ترامب، بدوره، لا يهمه تحديد مصدر التهديد، بقدر ما يعنيه تثبيت فكرته الأساسية: الحماية سلعة… ولها سعر.
الكويت: الغياب المعبّر
اللافت في الجولة كان غياب الكويت. الدولة التي تملك هامشًا سياسيًا أوسع، ونظامًا دستوريًا نشطًا، لم تكن ضمن جدول ترامب. هل لأنها لا تُجيد الصفقات ذات الأرقام الضخمة؟ أم لأنها لا ترى نفسها ملزمة بالدخول في لعبة الاصطفافات المطلقة؟ حضور الكويت كان في غيابها، ورسالتها وصلت دون أن تصافح.
لماذا كل هذا الزخم الإعلامي؟
قد يقول قائل: هذه صفقات، والعلاقات مع أميركا قديمة، فما الجديد؟
الجديد أن الصفقات لم تعد تدار خلف الأبواب المغلقة، بل صارت تُعرض على الشاشات، وتُقدَّم على أنها "إنجاز وطني". كل طرف في هذه المسرحية الإعلامية له غرض:
- ترامب، يريد انتصارًا بصريًا سريعًا، يُغذي قاعدته.
- الأنظمة الخليجية، تبحث عن غطاء شرعي يُبرّر تحركاتها الخارجية.
- واشنطن، ترسل للعالم – وخصومها تحديدًا – إشارات واضحة بأن الخليج ما زال يدور في فلكها.
خاتمة: الخليج بين الحماية والارتهان
جولة ترامب في الخليج لم تكن مجرد حصاد سياسي، بل تأكيد صارخ على أن موازين القوة لم تتغير كثيرًا، رغم كل ما شهده العالم من تحولات. فالصفقات الضخمة، والاصطفاف الاستراتيجي، والاحتفاء العلني بالعلاقة مع واشنطن، تكشف أن منطق "الحماية مقابل الولاء" لا يزال راسخًا.
لكن خلف هذا الهدوء الدبلوماسي، يلوح سؤال وجودي أكثر عمقًا: هل تملك دول الخليج رفاهية إعادة تعريف علاقتها بالقوة الأميركية، أم أنها باتت أسيرة مسار رسمه الآخرون؟
الجواب لن تحمله الأرقام، بل الأزمات القادمة… حين يصبح ثمن الحماية أكبر من القدرة على تحمّله.
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
