
من أين جاء مصطلحا "اليمين" و"اليسار"؟
المصطلحان يعودان إلى حقبة الثورة الفرنسية عام 1789، حين انقسم أعضاء الجمعية الوطنية إلى فريقين:
- الذين جلسوا على يمين رئيس الجمعية كانوا من أنصار النظام الملكي والطبقات الأرستقراطية.
- أما الذين جلسوا على يساره فكانوا من الثوريين الداعين لتغيير النظام الاجتماعي والسياسي بالكامل، وعلى رأسهم أنصار الجمهورية.
من هنا بدأ استخدام اليمين للدلالة على الحفاظ على الوضع القائم، واليسار للدلالة على السعي نحو التغيير الجذري. ولم يكن المصطلح آنذاك مؤدلجًا كما هو الحال لاحقًا، بل توصيفًا مكانيًا صار يحمل مضمونًا سياسيًا بمرور الزمن.
تطور المعنى السياسي لليمين واليسار
مع تطور الفكر السياسي في أوروبا خلال القرنين 19 و20، تبلور مصطلحا "اليمين" و"اليسار" ليمثلا اتجاهين متقابلين في النظر إلى الدولة، والاقتصاد، والمجتمع:
- اليسار السياسي: يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات، وتقليص نفوذ الطبقات الغنية، ودور أكبر للدولة في الاقتصاد، وغالبًا ما يرتبط بالأفكار الاشتراكية والماركسية والعلمانية.
- اليمين السياسي: يؤيد اقتصاد السوق، والملكية الخاصة، والمحافظة على التقاليد، وأحيانًا يُقترن بالدين، ويدافع عن الطبقات المالكة والنظام القائم، وقد يشمل القومية أو النزعة المحافظة.
لكن مع صعود التيارات الليبرالية، والتقاطعات بين الاقتصاد والدين، والهوية والمهاجرين، تشعّب المصطلحان، ولم يعودا بسيطين أو قطبين جامدين.
المعنى الاصطلاحي اليوم: تعددية واختلاط
في السياسة المعاصرة، لا يوجد تعريف عالمي موحد لليمين واليسار، بل تختلف دلالاتهما باختلاف السياقات الوطنية:
- في أوروبا الغربية، اليسار يرمز إلى الاشتراكيين والخضر، واليمين إلى المحافظين والليبراليين الاقتصاديين.
- في الولايات المتحدة، اليسار يعني الحزب الديمقراطي (برامجه الاجتماعية)، واليمين هو الجمهوري (الرأسمالية والدين والأسرة).
- في أمريكا اللاتينية، اليسار يُربط بالتحرر من الهيمنة الأمريكية، بينما اليمين يُتهم غالبًا بالارتباط بالرأسمال العالمي.
وهكذا، أصبحت المصطلحات مرنة، تخضع لإعادة تعريف مستمرة، وتُستخدم سياسيًا لتشويه الخصم أو تضليل الجمهور.
إسقاطات المصطلحين على الواقع العربي
في السياق العربي، استخدام مفهومي "اليمين" و"اليسار" يعاني من تشويش شديد:
- فاليسار العربي غالبًا ما ارتبط بالشيوعية والعداء للدين، أو بالأنظمة القومية السلطوية.
- بينما اليمين يُربط بالإسلاميين، أو أحيانًا بالأنظمة الملكية المحافظة.
لكن الحقيقة أن هذه التصنيفات لا تُترجم بدقة إلى البيئة العربية، التي لها خصوصياتها الفكرية والتاريخية، إذ لا توجد ديمقراطيات مؤسسية تُنتج تيارات سياسية واضحة، بل أنظمة هجينة تحتكر الدولة، وتُفرّغ التصنيفات من مضمونها.
حين تتحول المصطلحات إلى أدوات تضليل
الخطير في استخدام هذه المصطلحات في عالمنا العربي، أنها غالبًا ما تُستورد دون تمحيص، وتُستخدم كسلاح تشهيري:
- "يساري" قد تُستخدم كشتيمة لوصم خصم بأنه ضد الدين.
- "يميني" قد يُستخدم لتخويف الجمهور من التشدد والتطرف.
- بينما يختفي مضمون الأفكار الفعلي، ولا تُناقش البرامج والسياسات، بل تُختزل النقاشات في شعارات سطحية.
هذا الاستخدام غير الدقيق يُسهم في تغييب الوعي، وتعطيل النقاش السياسي الحقيقي، ويجعل من المصطلحات أدوات صراع لا أدوات فهم.
خلاصة: بين الفهم التاريخي والتوظيف السياسي
اليمين واليسار مفهومان نشآ من لحظة تاريخية أوروبية، وتطورا إلى تيارات متباينة في الرؤية الاقتصادية والاجتماعية. لكن نقلهما إلى العالم العربي دون نقد أو تمحيص، يحوّلهما إلى قوالب نمطية مشوهة، تُستخدم لإقصاء المخالف، لا لفهم الخلاف.
ما نحتاجه اليوم هو تجاوز هذه الثنائية الجامدة، لصالح فهم أعمق للواقع العربي، وأدوات تحليل تنطلق من أسئلتنا نحن: من يملك القرار؟ من يتحكم بالثروة؟ من يخدم الناس؟ ومن يخدم الخارج؟
. . . في العمق يتجلى الفرق . . .
