فروق: الإعلام والتضليل في العالم العربي: كيف يُضخّم الهامشي لإخفاء المصيري؟

Friday, May 16, 2025

الإعلام والتضليل في العالم العربي: كيف يُضخّم الهامشي لإخفاء المصيري؟

من البغوث إلى نيوزيلندا... كيف يُصنَع وعي مزيف تحت الضوء؟

في العالم العربي، لم تعد وظيفة الإعلام هي نقل الحقيقة، بل أصبحت تكييف الإدراك الجمعي، وتوجيه الانتباه بعيدًا عن القضايا المصيرية. تغرق الشعوب في متابعة التوافه، بينما تمر المشاريع الكبرى والجرائم الجسيمة في الظل، بصمت كامل، أو بصوت خافت مقصود.. الإعلام هنا لا يُخطئ عرضًا، بل يعمل بوصفه أداةً استراتيجية في يد السلطة، وأحيانًا في خدمة القوى الخارجية، لتزييف أولويات الأمة، وتسميم وعيها بمزيج من العاطفة المفرطة والانشغال الفارغ.


نموذج نيوزيلندا والبغوث: كيف يُغطّى الدم بالدراما؟

في عام 2023، وقعت مجزرة مروعة في منطقة البغوث شرق سوريا، حيث تم تصفية عدد كبير من النساء والأطفال داخل معسكرات تحت سيطرة ميليشيات تدعمها الولايات المتحدة. هؤلاء كانوا من حملة جنسيات أوروبية، اعتُقلوا سابقًا كمشتبهين بالانتماء لداعش. رفضت أمريكا عرضًا إندونيسيًا لاستقبالهم، فكان القرار غير المعلن: تصفيتهم.

في ذات التوقيت، اجتاحت التغطية الإعلامية العربية والعالمية حادثة طعن في نيوزيلندا، نفّذها مختل عقلي، دون قتلى. الإعلام ضخّم الحدث بشكل هستيري، واستخدمه لبث رسائل حول "تهديد التطرف الإسلامي"، بينما صمت بالكامل عن المجزرة المتعمدة في سوريا، والتي تشكّل فضيحة دولية من العيار الثقيل.


الطفل ريان: دموع تُستخدم كحجاب

قصة الطفل المغربي "ريان"، الذي سقط في بئر ضيق، هزّت المشاعر الإنسانية بصدق. لكن استخدام الإعلام للقصة تحوّل إلى أداة ترويج عاطفي وهروب جماعي من الواقع: بث مباشر لأيام، موسيقى حزينة، تغطيات لحظة بلحظة.

في الخلفية، كانت المسيرات تُقصف في اليمن، والمصلون يُطردون من الأقصى، والسجناء يُعذّبون في صمت. لكن الكاميرات كانت مشدودة نحو فتحة بئر، حيث الحدث آمن وموجّه، لا يحرّك وعيًا ولا يفتح ملفات.


حريق كنيسة أبو سيفين: سياسة الاحتواء الناعم

في مصر، شبّ حريق مروع في كنيسة أبو سيفين، أودى بحياة العشرات. التغطية الإعلامية الرسمية اندفعت سريعًا لتوجيه الحدث نحو "قضاء وقدر" و"خلل كهربائي"، دون أي تحقيق جاد في تقصير الإنقاذ أو إهمال البنية التحتية.

في الوقت ذاته، كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، وإفلاسات شركات، وارتفاع جنوني للأسعار. فجاءت تغطية الحريق لتملأ الفضاء العاطفي، وتُخمد صوت الغضب الاجتماعي، بإشباع وجداني مؤقت، لا يهدد النظام القائم.


كأس العالم: الأفيون المرئي

في كل دورة لكأس العالم، يتحول الإعلام العربي إلى ماكينة ترفيه ضخمة. تُعلّق النشرات السياسية، وتُغرق الشاشات في التحليلات التكتيكية، ويُفرغ المجتمع من الوعي بقضاياه الحقيقية. كل ذلك بينما:

  • تُمرّر اتفاقيات تطبيع
  • تُقمع احتجاجات
  • تُبرم صفقات الغاز
  • وتُفكك المؤسسات القضائية والاقتصادية

الرياضة هنا ليست رياضة، بل أداة تخدير سياسي جماعي، تُستخدم لتسكين الشعوب وضمان صمتها خلال أخطر اللحظات.


صحف الفن ونجوم التافه

إحدى أدوات الإلهاء المتكررة هي إغراق الإعلام في أخبار النجوم، والخلافات الفارغة، والإطلالات، والفضائح المفتعلة. تُستخدم هذه المادة لتفكيك انتباه الجمهور، وضرب تركيزه، وخلق قضايا بديلة.

فبينما ينهار النظام الصحي، ويُقمع المعارضون، ويُزاد العبء الضريبي، تكون العناوين الأولى حول فستان مهرجان أو طلاق فنانة، كأن الإعلام يصرخ للشعوب: "لا تنظروا هناك!"


من يختار الخبر؟ ومن يملك الكاميرا؟

في النهاية، ليست القصة فقط في تغطية هذا أو إهمال ذاك. بل في وجود منظومة إعلامية كاملة تعمل على هندسة وعي مزيّف، يُشعر الشعوب بأنها تعيش الحقيقة بينما هي غارقة في تمثيلية ضخمة.

من يقرر ما نراه؟ ومن يمنع ما لا يُقال؟
السلطة السياسية، والإعلام الممول، والغرف السوداء لصناع القرار.

والمشاهد؟
مشاهدٌ لا يملك إلا العاطفة، وقد سُلب منه العقل.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .