فروق: الحياد المستحيل: حين تختار المنصات الكبرى أي وعي يجب أن يُدفن

Friday, May 16, 2025

الحياد المستحيل: حين تختار المنصات الكبرى أي وعي يجب أن يُدفن


في كل نقرة زر، يُعاد تشكيل الوعي الجمعي دون أن نشعر. ما تراه على صفحتك ليس "الواقع"، بل ما اختارته لك خوارزميات ذكية تتقن فن التوجيه الناعم. تدّعي المنصات الكبرى أنها محايدة، لكنها في الحقيقة تُمارس رقابة مقنّعة تقرر من يُسمع ومن يُدفن صوته. في هذا المسرح الرقمي، لا صوت يعلو فوق ما تريده الخوارزميات. أما حريتك في تلقي المعلومة، فهي مجرد وهم ناعم مغلف بحرية مزعومة.


خوارزميات بلا ضمير

تدّعي الشركات الكبرى "الحياد"، بينما تُخفي مئات الحسابات والمنشورات وتُضخّم أخرى. صفحات توثّق جرائم حية تُمنع، بينما تنتشر أخبار الترفيه أو "الوعي المخفف" بسرعة مذهلة. كل شيء محسوب، وكل إخفاء ليس خطأ تقنيًا بل قرارًا سياسيًا.

في لحظة ما، قد تجد أن صوتًا حرًّا قد اختفى، ليس لأنه كذب أو خالف القانون، بل لأنه تحدّى رواية مهيمنة. الخوارزميات لا تعمل وفق معيار "الحقيقة"، بل وفق معيار "الملاءمة" لمصالح من يملكون المنصة.

الرقابة الناعمة: الوجه الجديد للاستبداد

لم تعد الأنظمة بحاجة لحجب المواقع، فتكفيها شراكة غير معلنة مع المنصات الرقمية. يتم التحكم في من يصل إلى الجمهور ومن يُنسى، دون ضجيج. هذه هي الرقابة الجديدة: لا تُسكتك، بل تجعل صوتك لا يُسمع.

يتم إسكات النقاشات الجوهرية بحيلة بسيطة: تقليل الوصول (shadow banning)، أو تذويبها في سيل من المحتوى الترفيهي. الرأي المخالف لا يُحارب مباشرة، بل يُحاصر بالسخرية أو يُقدّم في قالب يجعله يبدو هامشيًا.


هندسة الاهتمام: حين يُعاد تشكيل أولوياتك دون وعيك

لماذا ترى فيديو عن قطّة قبل أن ترى تقريرًا عن مجاعة؟ ولماذا تتكرر مشاهد التحديات السخيفة أكثر من قصص الشعوب المقهورة؟ لأن ما يُدفع لك هو ما يضمن بقاءك أطول على الشاشة، وليس ما يصنع وعيك.

يتم تسليع انتباهك، وتوزيعه على ما يُبقيك مستهلكًا لا متسائلًا. وهكذا، تُبنى طبقات الوعي الجديد: وعي هشّ، لحظي، منفصل عن السياق، وغير قادر على التشكيل الجماعي للرفض أو الغضب.


المنصات كسلطة موازية للدولة

فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها لم تعد منصات تواصل فقط، بل كيانات عابرة للحدود تمارس دور "الحاكم غير المنتخب". تقرر ما هو مقبول وما هو مرفوض، تُكافئ من يلتزم بقواعدها وتُعاقب من يخرج عنها، دون محاكمة أو دفاع.

في كثير من الحالات، تستجيب هذه المنصات لضغوط حكومية أو لوبيات سياسية واقتصادية، فتقوم بحملات منظمة لـ"تنظيف" المحتوى أو حذفه، خاصة إذا تعلّق الأمر بنقد سياسات الاحتلال، أو الحديث عن حركات تحرر، أو فضح جرائم حية.


تسليع القضايا وتحويلها إلى موجات مؤقتة

حتى القضايا العادلة لا تنجو من التسليع. فحين يتم تحويل المآسي إلى "ترندات"، يُفرغ الغضب من مضمونه. يتحوّل القتل الجماعي إلى "هاشتاغ"، والمقاومة إلى "فيديو مؤثر"، ثم يُنسى كل شيء بعد أيام.

المنصة لا تحتمل العمق، بل تختزل كل شيء في دقائق. هذا الاختزال يجعل القضية تُستهلك بسرعة، ويموت أثرها قبل أن تتحول إلى وعي فعلي أو فعل سياسي منظم.


هل من مقاومة رقمية ممكنة؟

الوعي بالخوارزميات، استعمال المنصات البديلة، ونشر المحتوى المقاوم بطريقة ذكية لا تزال ممكنة، لكنها تحتاج إلى جهد جماعي وإعادة تفكير في أدواتنا اليومية. المعركة لم تعد على الأرض فقط، بل في ساحة اللايك والشير.

المقاومة الرقمية لا تعني فقط البقاء، بل تعني بناء شبكات وعي مضادة، تعيد رسم خارطة المعنى، وتنقذ الكلمات من مصيرها الافتراضي البائس. ويكفي أن نُدرك أن المعركة قائمة، حتى نكسر وهم "الحياد" ونبدأ بخط الدفاع الأول: عدم التصديق الأعمى.


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .