فروق: بين الشعارات والدماء: كيف تحولت قضايا الشعوب إلى تجارة إعلامية؟

Friday, May 16, 2025

بين الشعارات والدماء: كيف تحولت قضايا الشعوب إلى تجارة إعلامية؟

لم تعد المأساة تُروى كما هي، بل كما ينبغي أن تظهر في نشرة الأخبار. تتشكّل قضايا الشعوب اليوم في قوالب دعائية، تُفرّغ من معناها وتُلمّع بمؤثرات بصرية وموسيقية، لتصبح "منتجًا إعلاميًا" يُستهلك لا يُفهم. كل دمعة تُحوَّل إلى لقطة مثيرة، وكل شهيد إلى عنوان ترند، وكل كارثة إلى جدول بث... في هذا المشهد، يتوارى الإنسان الحقيقي خلف "اللقطة"، ويُهمَّش المعنى لحساب المشهدية. إننا نعيش زمنًا يُعاد فيه تشكيل الألم الجماعي، لا ليُفهم، بل ليُباع.. هكذا أصبح الدم العربي، من فلسطين إلى السودان، عملةً في سوق الاستهلاك السياسي، لا قيمة له إلا في لحظة التداول.


من النكبة إلى العنوان العريض: اختزال المأساة في بضع كلمات

قضية فلسطين مثلًا، لم تعد محورًا لفهم الاستعمار المعاصر، بل مجرّد أزمة موسمية تملأ العناوين ثم تُطوى عند ظهور خبرٍ "أكثر سخونة". تحوّلت النكبة إلى ترند، والمجازر إلى فقرات قصيرة قابلة للمشاركة، تُصاغ بانفعال، ثم تُنسى كأنها لم تكن.

ينتقل المشاهد من مجزرة إلى تصريح، ومن تهجير إلى مباراة، ولا يعود يدري ما الذي ينبغي أن يبقى في الذاكرة وما يُسمح له بأن يُمحى.


الإعلام لا ينقل.. بل ينتج المأساة

لم يعد الإعلام يكتفي بعرض ما يحدث، بل بات يصنع كيف يجب أن يُرى الحدث. فزاوية الكاميرا، وطريقة القص، وموسيقى الخلفية، كلها تختزل الواقع في قصة "جذابة" لا في حقيقة مريرة. تُنتَج المأساة لتُستهلك، لا لتُفهم. تُستدعى الدموع، لا التساؤلات. يُستثار الغضب، لا الإدراك.

وبين عناوين "الحرب" و"السلام"، يضيع سؤال: من يربح من استمرار المأساة؟ ومن يُقصى كلما اقتربنا من الحقيقة؟


الإعلام البديل.. نسخة مختلفة من نفس العطب

حتى المنصات التي نشأت بزعم التحرر من قبضة السلطة، سقط كثير منها في فخ التوجيه السياسي أو الاستسهال المهني. فالعديد منها لم يقدّم بديلًا حقيقيًا، بل أعاد إنتاج الخطاب السائد بلغة مختلفة: عاطفية، مشحونة، بلا تحليل.

ما يقدَّم على أنه "إعلام حر"، أصبح في أحيان كثيرة مجرد وسيلة جديدة لتدوير نفس الرواية القديمة. تغيّرت الألوان، وبقيت الزوايا نفسها.


غياب الطرح الحقيقي.. هل الحل لم يعد مطلوبًا؟

في هذا الزمن، لا يُطلب الحل إلا حين يتوقف النزيف عن أن يكون مربحًا. أما استمرار الأزمة، فهو مطلوب لأنه يدرّ الأرباح: إعلانات، تفاعلات، حملات، تمويل. وبالتالي، يغيب الطرح الحقيقي، لا فقط لأنه مُراقب، بل لأنه غير مُجزٍ تجاريًا.

حين يصبح الموت مادة إعلامية، فإن الحديث عن الحياة يتحول إلى ترف غير قابل للبث.


المتلقي المأزوم.. بين الغضب والتخدير

وسط هذا الزخم، يجد المتلقي نفسه في حالة من الهياج المستمر دون إدراك. تُبنى مشاعره على أساس القصص المعدّلة، فيندفع إلى موقف، ثم يعود أدراجه مشوشًا، متخدرًا، بلا بوصلـة. وما كان يُفترض أن يبني وعيًا، أصبح يراكم تعبًا وانكسارًا نفسيًا جماعيًا.

وهكذا، تتحول الشعوب إلى جمهور، والجمهور إلى أداة، تُوجّه حيث تقتضي مصلحة المُخرج.


نهاية القصة.. أم بداية سقوط الحقيقة؟

حين يُصبح الصمت عن الحقيقة جزءًا من المعادلة، وحين يُكافأ من يُجمل القبح أكثر ممن يفضحه، فإننا نكون أمام إعلام لا ينقل الواقع، بل يحرس النظام الذي يصنعه. تسليع المأساة ليس خطأ عرضيًا، بل سياسة ممنهجة.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح: من يملك الجرأة لكسر هذا النمط؟ ومن يملك شجاعة الحديث عن جوهر المأساة، لا عن صورتها؟


. . . في العمق يتجلى الفرق . . .